الصفحة الرئيسيةقصص وسرد
الحالمة بالسعادة
الأحد ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٥
بقلم عادل سالم

كانت على فراش الموت، لم يفصل بينه وبينها سوى ثوان فقط، حتى بدأت تلقي وصيتها على أولادها الذين يحيطون بها، كأنها كانت تعرف أن الموت ينتظرها بالباب.
أوصيكم، لا تتفرقوا، سامحوني إن قصرت معكم.
وقبل أن تكمل فارقت الحياة.

عجيب أمر هؤلاء الذين يحتضرون كأنهم يعرفون موعد الموت، أو كأنهم يرون ملك الموت أمامهم قادما ليقبض أرواحهم، ماتت أمي رحمها الله . أسلمت الروح لباريها قبل أن تبلغ الخمسين عاماً بعد أن هاجمها سرطان الكبد فلم تقو على مجابهته. هاجمها ليفتك بها بعد أن أفنت عمرها تحلم بالسعادة لكنها لم تعش منها ولا يوما واحداً.

كانت رحمها الله كالأعمى الذى لا يرى الأشياء لكنه يسمع عنها ويصفها كما يسمعها لا كما يستمتع برؤيتها . فمتعة الأعمى أن يسمع الآخرين يصفون الأشياء كما يرونها فيفرح لفرحهم. لم تعرف السعادة منذ ولادتها وكانت تسمع عنها من الآخرين فتسعد لسعادتهم.
ما أصعب أن يفقد الابن أمه، لكن أمي كانت بالنسبة لنا شيئا خاصا يختلف عن أمهات الناس الآخرين كانت كبستان الورد الذي أتت عليه ريح شديدة أو إعصار مثل سونامي فأحاله خرابا ولم يبق منه إلا ذكريات. الفارق الوحيد بينهما أن بستان الورود يمكن ترميمه وإعادة زراعته من جديد لكن أمي يصعب إعادتها أو استبدالها. عاشت مظلومة منذ طفولتها فقد زوجوها قبل أن تبلغ الرابعة عشرة وأنجبت أول طفل ولم تبلغ الخامسة عشرة، وقبل أن تبلغ الثلاثين كان لديها عشرة أطفال فقالت لوالدي:
  يكفي لم أعد أحتمل.

لكن والدى رفض لأن هذا ضد الدين كما قال، ولأن الله يرزق الناس بالأبناء ورزقهم معهم، لم تقتنع أمي بكلامه لكنه لم يفرض رأيه كعادته، لأنه تركها ومات فقد صدمته سيارة وهو في الطريق للعمل، فأصبحت أمي أرملة وأماً لعشرة أطفال ولم يترك لها والدي فلسا واحداً، فقد كان رحمه الله فقيراً فعشنا حياة الحرمان والبؤس، واضطر معظمنا ترك مقاعد الدراسة والالتحاق بسوق العمل ونحن أطفال كانت الشئون الاجتماعية فى الأردن تمنحنا سبعة دنانير شهريا (عشرةدولارات حاليا) تصرف منها أمي دولارين على المواصلات وطوابع الأوراق فلا يبقى سوى ثمانية دولارات.

أولاد الحلال كثيرون لم ينسوا جيرانهم الفقراء فعشنا على الصدقات. كانت أمي جميلة. أكثر أخواتها جمالا لكن حظها العاثر لم يجلب لها سوى المصائب. بعد وفاة والدي تقدم أحدهم لخطبتها لكنه اشترط أن تتخلى عن الأولاد فبصقت عليه.

 أولادي روحي قالت لكل الناس الذين عرفوها. كانت تعمل ليل نهار فلم يكن عندنا آنذاك لا غسالة ولا ثلاجة ولا حتى فرن غاز.
وعندما كبرنا جميعا ولم يبق فى البيت أحد سوى (آخر العنقود) أصيبت بمرض السرطان، لم نستطع أن نفعل شيئا فمن أين لنا بكبد جديد ومن أين لي بثمن العملية الجراحية؟

ماتت أمي رحمها الله بعد رحلة المعاناة الطويلة وكانت قصتها أشبه بقصة "أبي جبر". وهل كان والدي إلا نسخة منه. كان يتمنى طيلة حياته أن يضع في جيبه مائة دينار أردني مرة واحدة، فمات قبل أن يحقق حلمه . ترى لو اعتبرنا أعمار الناس بعدد أيام السعادة في حياتهم فكم أبي جبر سيكون عندنا؟!.


تعقيبك على الموضوع
في هذا القسم أيضاً