الصفحة الرئيسيةتحت المجهر
لعيون الكرت الاخضر
رصد لخسارات المنفى وكشف لزيف الحلم المعوّض
السبت ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم الأديبة نجمة حبيب

صحيح ان مسألة الهجرة مسألة قديمة قدم الخليقة، مارستها وتمارسها شعوب الارض على اختلافها بحثا عما هو أفضل لأسباب معاشها وحريتها الفكرية، ولكن الصحيح أيضاً انها أمست، في زمننا الراهن، هاجساً بل حلما معوضاًّ يسعى اليه شبابنا هرباً من كل ما يعانيه من احباطات سياسية واجتماعية واقتصادية في أوطانهم الام. صحيح ان الكثيرين في سعيهم هذا حققوا مكاسب مادية ما كانت لتتاح لهم في بلدانهم، إلا أن الصحيح أيضاً هو أنهم دفعوا اثمانا غالية من قيمهم وكراماتهم وسلامهم الداخلي لا يدرك خسارتاها إلا من كان له تجربة مماثلة. والكاتب، عادل سالم، في مجموعته القصصية "لعيون الكرت الاخضر"، وعى هذه التجربة وشهد ضحاياها فأطلق كتابه هذا صرخة تحذير لكل اولئك الوالهين وراء أوطانٍ بديلة معلنا، منذ الصفحة الاولى، ان الغربة نار والوطن جنة مهما ثقلت فيه المعاناة. وهو لا يدعي أنه مبدع رسولي ولا يلجأ الى الفانتازيا أو الغرائبية لإعطاء عمله صفة الادهاش والحداثوية التي يبهر بريقها مجتمع المتأدبين، بل يقولها صريحة: إن هذه القصص ليست من صنع الخيال ولا مجرد ابطال على ورق بل هم ابطال حقيقيون بعضهم لا يزال يعيش في الولايات المتحدة حتى يومنا هذا. لذا فهو بذلك يكفينا شر فذلكة التأويل وتحميل نصوصه ما لا يريده لها ان تحمل به، وينزع من يدنا المبرر لمحاكمته محاكمة نقدية فنية

تنتمي شخوص هذه القصص، في مجملها، الى فئة المهمشين المعدمين، او الى ما يعرف عند جماعة الشعراء النيويوركيين بالعلم السفلي، إلا ان كاتبنا لا يتعاطف مع ابطالها كما تفعل هذه الجماعة بل نراه يدينها ادانة خجولة حيناً وصريحة صارخة في معظم الاحيان. وتتلخص مأساة معظمهم في كونهم يعيشون انفصاما مريرا بين ما تربوا عليه من قيم ومعتقدات وبين قيم ومعتقدات المجتمع الجديد الذي انتموا اليه. وهم وإن تمثلوا، قيم مجتمعهم الجديد كالفردانية والعقلانية، مثلاً، فإنه لا يزال يعيش تحت جلودهم حس الانتماء الى الجماعة والاحتكام الى الهوى قبل العقل. والنماذج في هذا المجال كثيرة، نأخذ منها على سبيل المثال قصة "الى الجحيم يا علي"، فنرى كيف ينغمس البطل بهذه الثقافة الجديدة التي تقول بالتحرر الجنسي، فينشئ علاقة خارج اطار الزواج مع امرأة سوداء وينجب منه طفلاً يتخلى عنه لأمه ولا يتعرف عليه الا بالصدفة وبعد مرور أربعة عشر عاما على ولادته، ولكنه لا يلبث ان يعود شرقياً يخجل من هكذا علاقة ويهمه اكثر ما يهمه ماذا سيقول ابناؤه عندما يكتشفون ان لهم شقيقا أسود: "أتخاف أن يعرف الاولاد أن لهم أخاً آخر....أخاً أسود، طبعاً. فهذا عارك...إنك لا تستطيع أن تقول لأصدقائك وأهلك أن لك ولداً أسود، فهذه فضيحة في عرفكم أليس كذلك؟ (17). أما في قصة "ظافر كينغ" فتبرز المعضلة اشد إيلاماً وأعمق تأثيراً، إذ أن البطل فيها يتخلى عن دينه الذي ولد عليه ويعتنق المسيحية، لا عن ايمان او قناعة، بل ليمالئ الثقافة المسيطرة. لقد رأى نفسه مخيراً بين خسارتين إما أن يخسر حياته الاجتماعية من اصدقاء وزوجة وأبناء، أو يخسر دينه فكان ان اختار الخسارة ذات الحساب المؤجل. ورغم أن ظافر مولود في اميركا ولا يعرف من العربية إلا كلمات قليلة، والتنازل الذي أصابه كان قد سبقه تنازل أكبر يوم قرر أبوه أن يغير اسمه ويتنكر لعروبته وفلسطينيته، رغم كل ذلك فما زال يرغب بزيارة القدس والتعرف على أقاربه الذين لا يزال يحتفظ بصورهم (232). نموذج آخر نراه في شخصية الصديق جمال الذي غضب لأن المطعم قدم له حساء فيه لحم خنزير ولكنه في الوقت نفسه لم يتوان عن الشروع في عملية جنسية رخيصة مجرد ان لاحت الفرصة له لذلك:

تخريب الذات وإمعان في العطالة

إلا أن أشد خسارات المنفى، أو الغربة كما يسميها المؤلف، فهي في ذاك الذي يطال الذات المغتربة والذي لا ينحصر ضرره في تخريب الفشرة السطحية لهذه الذات بل يتغلغل الى العمق فيطال انبل القيم الانسانية على الاطلاق، الامومة والكرامة مثلاً. ففي مجتمع استهلاكي يلهث وراء السلعة كالسيارة الفارهة والبيت الانيق وما شابه، يمسي الدولار القيمة العليا ويتفوق على كل ما سواه من قيم وتصبح فلذات الاكباد سلع تزهق في سبيله. ففي قصة "أنت طالق يا سهام" تنحدر الام الى ادنى درجات الاسفاف الانساني بل الحيواني، وتتغلب فيها شهوة المال على عاطفة الامومة فتعمد الى قتل طفليها طمعا به: ". . .بدأت تشرح لهم كيف تفتل أولادها بيديها. . . وأنها فعلت ذلك دون علم زوجها وأنها كانت تقتل الابن بعد ان تشتري له بوليصة تأمين على الحياة لتقبض المبلغ؛ لتشتري به بيتا جميلاً وسيارة كبقية الناس" (80-81)

[(أما قصة "لعيون الكرت الاخضر" فإنها النموذج الامثل للعنة النفي وقمة خساراته، إذ أنها لا تكتفي بتدمير الذات الفردية بل تطال الاخرى الجمعية. هي عطالة ذاتية لأن فيها يسعى الرجل بكل ما وهبه من ذكاء وفطنة لينسب الى نفسه صفات النذالة والنجاسة التي تكون للعميل والخائن. وهي عطالة جمعية لأنها تنسب الى الجماعة، (الحزب، الوطن) صفة الغوغائية والبربرية، والمؤسف أن مثل هذه الحالات موجودة بقوة في مجتمع المغتربين عموماً حيث تصل النذالة في بعضهم الى التباهي بها واعتبارها شطارة وضحك على الحكومات المضيفة. وفادي، بطل القصة، لم يكن نذلاً قبل هذه الهجرة فقد تأثر وبكى عندما دست خالته مائة دولار اميركي في جيبه وقطع عهداً أن يردها لها مضاعفة "إذا وفقني الله لارسلن لك مائة دولار شهرياً حتى آخر يوم في عمرك". ولكنه وفي سبيل الحصول على الجنسية الامريكية، انحدر الى أدنى درجات الدرك الانساني فزوّر التاريخ ونسب الى والده الشهيد إثم الجاسوسية وادعى ان الحزب يطارده بقسوة وهمجية حد الموت.)]

وفادي بعمله هذا يتفوق في عطالته على جميع من عرفهم، فالذي يدعي اللواطية أو الذي يتزوج لغاية نفعية انما يسيء الى نفسه فقط، فيما أساء هو الى شرف عائلته وحزبه وربما امته كلها. والغريب في الامر أن فادي يدرك خطورة ما يفعله ويحس بحقارته ولكنه يستمر فيه مدعيا انما يفعل ما يفعله من اجل غاية نبيلة: "أعرف أنني تافه وحقير، أعرف أنني شوهت أبي، شوهت تاريخه، سمعته، جعلت منه عميلاً وجاسوساً، و...من أجل كرت الاقامة؟ عملت ذلك لأني أريد العمل هنا، عملت ذلك لغاية نبيلة" (70)

قل أن التفت الكاتب الى ما يعانيه المهاجر السوي وكفاحه لتحقيق ذاته في مجتمع ينظر اليه بدونية في بعض الاحيان، وبعدائية في معظمها. فهو مثلاً لم ينقل لنا صوراً عن معاناة القادم الجديد مع اللغة ومع القوانين الغريبة على طبعه وتربيته، أو الصعوبة التي تواجهه في إيجاد وظيفة تناسب مؤهلاته، مع أننا نعلم ان الكثيرين ممن يحملون مؤهلات جامعية عالية يضطرون للعمل أعمالاً وضيعة (خداماً في المطاعم، كناسين في الشوارع ومحطات القطارات. . . ) إلا أن هذا الاغفال لا ينتقص من قيمة العمل، فالكتابة المبدعة انتقائية. والكاتب المبدع انما ينطبع في ذهنه صور واحداث دون غيرها، وهو غير ملزم بنقل الواقع كما هو، بل كما ترتأيه مخيلته المبدعة التي يختلف ما يحفزها ويحرضها بين شخص وآخر. ومن القليل الذي التفت اليه الكاتب في هذا الشأن قصة "حلم لم يتحقق" و "زيارة الى مكتب الإف بي آي" حيث بيّنت الاولى ما يقع على المهاجر من ظلم نتيجة الاختلاف في الثقافتين (الاب يقبل مؤخرة ابنه فيتهم بالشذوذ الجنسي ويفضي به الامر الى خسران ابنه) وبيّنت الثانية المأزق الذي عاناه محمد مع المخابرات الامريكية (طلب منه أن يكون عيناً على جماعته وإلا اتهموه بتشجيع الارهاب)
[(
وتبقى مجموعة "لعيون الكرت الاخضر" لوحات نابضة بالواقعية، تهتك ستر المخبوء في مجتمع المهاجرين العرب في أميركا الشمالية، وتفضح زيف الحلم المعوض الذي يعيشه اللاهثين وراء الهجرة الى بلاد يعتبرونها أرض الاحلام المحققة
)]

بوسطن

‏23‏ كانون الثاني‏، 07


تعقيبك على الموضوع
في هذا القسم أيضاً