كنت مشغولا ذلك الأسبوع، لذلك اعتذرت من صديقي عماد في ولاية ميتشغان الأمريكية الذي دعاني، وأصر على حضوري حفلة زفاف نجل أحد معارفه، حتى أنني لكثرة إصراره على حضوري، اعتقدت أن أحد العروسين من أقاربه.
سألته مازحا:
– لماذا تصر على حضوري زفاف شخص لا أعرفه، ولم أسمع به أصلا؟
– لأنك ستحضر أغرب حفلة زفاف في حياتك.
– يا عماد لم تعد تثيرني حفلات الزفاف وفخامة قاعات الاحتفالات، والأطباق الشهية التي تقدم للمدعويين ...
قاطعني قائلا:
– أعرف كل ذلك لكن صدقني أنك ستغير رأيك بعد الحفل، وتشكرني على دعوتك للحضور.
لم يترك صديقي لي سببا للرفض، وأصر على حضوري، لأنه يحضر لي مفاجأة لم أحلم بها من قبل.
أنهيت المكالمة معه وأنا أفكر، ما سر غرابة هذا الاحتفال؟ كثرة الحضور؟ مشاركة فرق فنية راقصة كبيرة؟ توزيع الجوائز على الحضور؟ أم هي مناسبة للاختلاط بإحدى الجاليات العربية التي أخبرني صديقي أن العريس أحد أبنائها؟
تأخر إقلاع الطائرة من ولاية منسوتا حيث أقيم، فاتصلت بعماد أخبره كي لا يمل الانتظار، وجددت له اقتراحي أن يعفيني من الحضور، لكنه أصر على ذلك وقال لي:
– لا تقلق سأنتظرك بالمطار.
– لكن الحفل سيبدأ بعد قليل.
– قلت لك سأنتظرك حتى لو وصلت في نهاية الحفل.
بعد ساعة من موعدها المحدد أقلعت بنا الطائرة متجهة إلى ولاية ميتشغان، كنت طوال مدة الرحلة أفكر بسر هذا الزواج الذي دعاني صديقي خصيصا لحضوره.
كان عماد في انتظاري، تعانقنا بعد فراق طويل، يا لهذا الزمن الذي يسرق منا أعمارنا دون أن ندري، قلت له على الفور:
– تغيرت كثيرا يا عماد، ما هذا الكرش الذي تحمله؟
ضحك وقال:
– لم تترك لنا الغربة أية وسامة، تعودنا على الأكل السريع، وقلة الحركة، لكن ماذا عنك يا صديقي؟ لقد تغيرت ملامحك كثيرا، حتى يصعب أن أعرفك، شعر أشيب، كأنك في سن السبعين!!
بعد ثلاثين عاما في الولايات المتحدة، ما زلنا نقول إنها غربة، في حين يقول أولادنا الذين لا تزيد أعمارهم عن عشرين عاما إنه الوطن الذي لن يعيشوا بغيره، هكذا إذن أصبحنا نعيش غرباء في وطن الأبناء، وأصبح الأولاد، والأحفاد غرباء عن وطن الآباء.
قلت له ونحن في الطريق إلى قاعة الاحتفال:
– ألا تزال مصرا على عدم الإفصاح عن سر هذا الاحتفال الذي دعوتني إليه؟
– كما عرفتك منذ ثلاثين سنة، بصلتك محروقة، اصبر يا عصام، فقد اقتربنا من مكان الاحتفال.
صمت لحظة ثم قال:
– ألست الذي كنت تكتب لي دائما في رسائلك أن المتعة في الأشياء أن نكتشفها بأنفسنا، لا أن يصفها لنا الآخرون؟ فهل تحب أن يصف لك شخص ما سواحل ماليزيا الجميلة، أم تراها أنت بنفسك؟ أليست هذه أقوالك؟
أخرسني جوابه، فلم أعد أسأله عن الاحتفال الغريب. نعم المتعة في اكتشاف الشيء لا تضاهيها متعة أخرى، لذلك ترى الغواص يستمتع بين الأسماك باحثا عن اللؤلؤ، والمرجان، بينما نحن نستمتع فقط بمشاهدة قاع البحر على شاشة التلفزيون.
وصلنا الفندق الذي سيقام الاحتفال في إحدى قاعاته الكبيرة، كان واضحا من السيارات التي تملأ الساحة خارج القاعة أن غالبية الحاضرين من رجال الأعمال والميسورين، فهذه سيارات جي إم سي، وهذه إنفنتي، وتلك مرسيدس، ....
يا الله كلها سيارات حديثة، غالية الثمن!!
قلت لصديقي:
– يبدو أن للعريس علاقات واسعة بين الجالية هنا؟
– لا ليست له أية علاقات، لكن أبوه صاحب كل تلك العلاقات الكبيرة التي تراها، ستتعرف عليه بعد قليل.
لم أفاجأ بالعدد الضخم للمدعويين للاحتفال فقد حضرت في السابق احتفالات كثيرة تضم الآلاف من أبناء الجالية، وأصدقائهم ولكني فوجئت هنا بجمهور آخر لم أتعود عليه في المناسبات التي تعودت حضورها.
فهذه الجالية يبدو أن لها عادات تختلف عما تعودنا عليه في بلادنا.
أكثر ما لفت انتباهي فساتين النساء وروائح عطورهن التي اخترقت أنفي فأثارتني قبل أن يثيرني جمالهن الساحر.
همست لصديقي بأول تعليق ساخر:
– يبدو أنه احتفال لاختيار ملكة جمال المهجر؟ من أين كل هذا الجمال؟
سرنا بين الحضور باتجاه الطاولة المعدة لنا كنت خلال سيري أتلفت يمينا ويسارا أمتع نظري بورود هنا وأخرى هناك، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي عن سر دعوة صديقي لي:
لاحظ صديقي انبهاري وقلة حيائي في التلصص على مفاتن ضيفات الحفل، فقال لي:
– هل سحرتك النساء بهذه السهولة؟
– وهل أنا صخرة المتنبي التي لا تحركها هذي المدام ولا تلك الأغاريد؟
– حسنا سنسمع رأيك بعد أن نعرفك على العريس والعروس. انظر الناس يباركون لهما، تعال نسلم عليهما قبل الجلوس، لا تكن فضوليا، واضبط أعصابك.
وقفنا بالطابور ننتظر دورنا، لكي نهنئ العروسين، كنا خلف امرأة فاتنة مع زوجها، كان واضحا أنها أصغر منه بعشرين سنة على الأقل أو هكذا بدت، كانت تتمختر أمامنا في مشيتها كأنها في ليلة زفافها، قلت في نفسي:
– الحمد لله أنني لم أحضر زوجتي معى لغارت منها ولما سمحت لي بالتمتع بهذا الجمال الذي يقف أمامي.
اقتربنا من العروسين وأهلهما.
سلم صديقي على والد العريس وعرفني عليه ...
– هذا والد العريس ..
– أهلا وسهلا ألف مبروك.
– هذه والدة العريس السيدة...
– تشرفنا
كانت الوالدة جميلة جدا وقد حسبتها في البداية العروس، وعندما عرفت أنها والدته، بدأت أبحث في عيوني عن العروس فلم أجدها.
لكزني صديقي وقال:
– أعرفك على العريس ...
سلمت عليه وباركت له، فجأة قال لي صديقي
– العروس كرس كويست،
هنا كانت المفاجأة
ابتسمت ابتسامة صفراء، دققت النظر في العروس وسلمت مباركا، ثم ابتعدت قليلا فقد شعرت بالإعياء الشديد، وكدت أقذف ما في جوفي، سألت صديقي بعد أن عرفت غرابة هذا الاحتفال:
– أهذه العروس حقا؟؟
– اضبط أعصابك؟
– لا إله إلا الله، يا لطيف، هل نحن في حفل زفاف أما حفل أموات؟
لم أتحمل الصدمة أبدا، لعن الله صديقي فما لي ولهذه المفاجآت التي قرفت كل شيء بسببها.
سألت عماد غاضبا:
– أهذه هي المفاجأة؟ أهذا هو أغرب زواج تريدني أن أحضره؟
– نعم أليس غريبا كل الغرابة؟
– إنه مقرف جدا، هل هؤلاء هم أحفاد العرب؟ إني لأحسبهم أحفاد هولاكو! والله حتى هولاكو لن يقبل بهم. كل هؤلاء الضيوف جاءوا لحضور احتفال زائف؟
– إذن هو فعلا احتفال غريب، أليس كذلك؟
– ليتك لم تدعني فقد صدمت كثيرا.
نظر إلي صديقي بجدية، قطب حاجبيه وسألني:
– ألست كاتبا، ألا تكتب القصص؟ ألا تستمد قصصك وشخوصك كما تقول من الواقع؟
فكرت فيما قاله صديقي وعرفت ماذا يقصد، سألته:
– هل تقصد أن أكتــ...(قاطعني)
– تماما هو ما أقصده.
عندما جلسنا لتناول العشاء، كان يجلس معنا على الطاولة الدائرية ستة أشخاص آخرين، سلمنا عليهم وجلسنا صامتين حتى لا تزعجهم تعليقاتنا، بعد فترة قصيرة سمعت أحدهم يهمس لصاحبه:
– لقد فضحنا هذا العريس، ستكون إهانة إلى جاليتنا، وتاريخها العظيم.
– لماذا لم تقل ذلك لأبيه؟
سكت الأول ولم يجب، رد عليه آخر سمع ما قاله:
– لماذا تتحدثان همسا وكأنكما خائفان،
صمت ثم تابع:
– أنا أقول لك لماذا لم يقل لأبيه لأنه وقع معه عقدا عقاريا بقيمة مليوني دولار.
ضحك أحدهم وقال:
– عرفنا الآن سر سكوتك!!
رد شخص آخر عليهم جميعا، وقال:
– لا تلوموه، ترى ما الذي أحضركم كلكم اليوم؟ لماذا جئتم تباركون هذا الزواج اللعين؟ كلنا مشاركون في الجريمة.
فجأة دعا قائد الفرقة الموسيقية الجميع للمشاركة في رقصة العريس والعروس، فهب الجميع واقفين كأنهم في حفل لموزارت، أو بيتهوفن، وقفت مع صديقي لنشاهد العريس كيف يرقص مع عروسه.
لم يكن منظرا غريبا فحسب، بل كان مقرفا لأبعد الحدود، لم أتصور يوما أنني سأكون شاهدا على زواج كهذا.
العريس يراقص عروسه، فجأة بدأت الموسيقى الخفيفة، ألقت العروس رأسها على كتف العريس، صفق الجميع، فجأة لمحت صديقا أعرفه من مدينة شيكاغو، ذهبت إليه حيث يقف:
– فادي كيفك؟
ف_ رد علي بلهجته اللبنانية:
– لك وينك، شو جاي تعمل هون؟
– وماذا تفعل أنت هنا؟
– شغل يا عصام شغل.
– حتى أنت لك شغل مع والد العريس؟
– طبعا وإلا لم ترني هنا، هل أنا مجنون لأحضر حفلات من....
لم يكمل الكلمة خوفا من أن يسمعه أحد.
صمت ثم قال:
– لكن أنت ما الذي أتى بك؟
– صديق قديم أصر أن أشاهد هذا الاحتفال الغريب.
– غريب!! أتضيع وقتك وفلوسك لتشاهد هذا الاحتفال؟
– لكن كيف حصل ذلك؟ لماذا لم يوقف الأب هذا الاحتفال؟
– لم يستطع، ولأنه ابنه الوحيد ووريثه الوحيد، أقام له هذا الاحتفال!! لو كان ابني لدفنته حيا!
– معقول؟
– أكيد، أتريدني أن أقبل بابن لوطي يتزوج لوطيا مثله؟ تفوه على هيك زمن.
– لماذا قبلت الجالية حضور الاحتفال؟
– أصحاب مصالح، مصالحهم أهم من مبادئهم، ودينهم. الدولار هنا سيد الموقف، ألم تسمع بالمثل الأمريكي المعروف، الفلوس تتكلم.
التاريخ | الاسم | مواقع النسيج | مشاركة |