للراغبين بتحميل الرواية فهي منشورة أدناه في ملف بي دي إف
عن «المؤسسة العربية للنشر» في بيروت صدر في مطلع تشرين أول ٢٠١٢ رواية الأديب عادل سالم، رئيس تحرير ديوان العرب روايته الجديدة «قبلة الوداع الأخير».
الرواية تقع في ٢٢٤ صفحة من الحجم المتوسط، صمم غلافها الفنانة الفلسطينية رشا السرميطي.
رواية جديدة بأسلوبها وأحداثها ينتقل فيها عادل سالم من هموم الإنسان في فلسطين إلى مدينة صيدا (لبنان) الجميلة حيث أهداها روايته لأن أزقتها، وحاراتها، وأبطال روايته الذين التقاهم هناك أوحوا له بهذه الرواية الجديدة.
«قبلة الوداع الأخير» رواية العاشق الذي يضحي من أجل غيره دون مقابل. رواية العشاق الذين تحولوا لأصدقاء رغم سخرية كل من حولهم.
رواية المعذبين الذين لم يستطيعوا التخلص من تأثير جلاديهم حتى وهم بعيدون عنه كأنهم وقعوا بين فكيه ينتظرون لحظة النهاية المؤلمة بصبر.
في الطريق إلى بيت أهلها قلت له:
لماذا يصر الناس على إلقاء نظرة الوداع على الجثث؟ أهو واجب تجاه من نحبهم، أم كي نرضي ضمائرنا، أم لأننا بتلك النظرة نستعيد أيامًا حلوة مضت؟ وأين تلك الأيام التي سأتذكرها بإلقاء نظرة الوداع عليها؟
ما الذي سأتذكره حين أراها ممددة أمامي جثة هامدة؟ أيام الشقاء؟ أيام الحب، أم أيام الغباء التي مرت؟
أهو حظنا ونصيبنا؟ أم إرادة الله فينا؟ هل نبكي لما حل فينا، أن نصبر ونعده امتحانًا علينا النجاح به؟
تُرى لماذا ماتت وهي تحمل رسالتي الأخيرة وصورتي الشخصية؟ هل كانت تفكر بقصتنا القديمة؟ هل كانت تعيش لحظات الندم على ما فعلته بي، أم على ما حل بها؟ هل كانت تبكي حظها التعيس واختيارها الأتعس، أم كانت تبكي خسارتها لي؟ كيف لي أن أعرف ما كان يدور بخلدها؟
مهما كان الأمر فقد ماتت، كأنها أرادت أن تقول: «لقد أتعبتك معي كثيرًا. أرهقتك بمشاكلي، والآن أتركك وفادي لأرحل بسلام..»
هل تذكر يا سامح تلك الرسالة التي كتبتها لك عندما حاولت الانتحار؟ ما زلت تحتفظ برسالتها في أرشيفك الخاص، وتحفظ نص تلك الرسالة كأنها قصيدة شعر، كتبت لك فيها:
أشكركم على كل شيء
أتمنى الموت من كل قلبي، جميعكم تظنون أنكم ضحاياي، ولكني أنا أول ضحية لنفسي.
لم أكن راضية عن حياتي سابقًا، وطلبت من الله أن يهديني وقد فعل، ولكنكم تجهلون الجرح الذي في داخلي.
كم أنا عاجزة عن المواجهة بخطئي الذي أكرهه، وليس لأنني أريد الكذب، بل أكره نفسي لأنني كنت غبية بحياتي الماضية، ومحبتي للناس، وكم أضروا بي، وكم جلبت لنفسي المتاعب، ولكم.
إن ظللت حية أرجو أن تحاولوا أن تساعدوني على تخطي الخوف من الانحراف بأخطائي، والتخلص من نفايات الماضي التي في داخلي، وإن مت فالله يسامحني وسامحوني.
رانيا
آه عليك يا رانيا. رحمك الله. كم كنت تتألمين وتتعذبين بحياتك! كم مرة حاولت الانتحار وأنقذناك في اللحظة الأخيرة! كنت تحاولين دائمًا الهروب من مشاكلك بالانتحار. كنت تخافين المواجهة. كنت مستسلمة للاكتئاب. كنت لا تريدين المقاومة. تشعرين بالعجز التام. استسلمت لأوهامك فدمرت نفسك ودمرت من أحبوك. ترتعبين من الحقيقة. لم تكن تعترف أنها استسلمت للجاني، وكانت تصر أنها تحاول تخطي عقدتها.
وصلنا إلى بيت أهلها. كانوا ينتظروننا لانطلاق الجنازة. سلمت على الأهل الذين استقبلوني بفتور، فلم يحدث أن جاء زوج سابق للعزاء بامرأة متزوجة وبصحبة زوجها اللاحق. تصرف غير مفهوم، وغير مبرر، لكن فادي يعرفهم جميعًا.
قال لهم بصوت حزين:
نظرت إلى أمها وأشاحت وجهها، ولم تسلم علي كأنني أنا المذنب الذي أجرم بحق ابنتها، أما أخوها زياد فقد تقبل التعازي وشكرني للحضور، فهو يعرف أخته أكثر من أمه، ويعرف أنها وراء طلاقها.
اخترق فادي الصفوف، وقال لأمها:
لم أتفوه بكلمة واحدة. تركت له شق الطريق بتأثيره عليهم. دخل الغرفة فدخلت وراءه. أغلق الباب وراءنا فلم يبق سوانا ورانيا.
كانت تغط في الصندوق في نوم أبدي.
تقدمنا منها كجنديين يقدمان التحية في لحظة وداع. قرأنا الفاتحة معًا، ودعونا لها بالرحمة. كان وجهها شاحبًا حزينًا، كأنها تحمل معها كل هموم الدنيا، أو كأنها حملت أحزان العالم التي لم يحملها المسيح في حياته.
نظرت إليها متمنيًا أن تفتح عيونها لأراها للمرة الأخيرة.
أين ذلك البريق الذي كان يشع من عينيها؟ أين سحر عيونها؟ أين نظراتها التي كنت لا أنام الليل مبهورًا بهما؟ تمسمرت في مكاني.
قال لي فادي:
– ماذا تنتظر؟
كأنه فهم ما أفكر به. كان دائمًا يقرأ أفكاري، وكان دائمًا يساعدني على التقدم بخطوات، لكن كلها فشلت، فهل تنجح الآن؟
قال لي:
– لو كانت الجثة قد فقدت قدسيتها ما تمسمرنا أمامها نذرف الدموع. قبلها قبلة الوداع، فقد طال وجودنا في الغرفة.
ملت برأسي نحوها. دققت النظر في شفتيها ووجنتيها، هاتان الوجنتان الجميلتان كم قبّلتهما، أما شفتاها فقد كانت تمتنع أن يصل إليها أحد.
كنت أحلم أن أقبّلها، لكنها كانت تصاب بحالة عصبية كلما هممت بذلك أو اقتربت منهما، وإذا تقدمت نحوهما تغضب وتصاب بهستيريا كأنها المنطقة المحرمة التي لا يستطيع الوصول إليها أي أحد. سأقبلها من وجنتيها، من المنطقة التي كانت تسمح لي أن أطبع قبلاتي عليها دون خوف. لم تسمح لي أن أقترب من الشفتين، أفأقترب منهما بعد موتها؟ إنها خيانة.
اقتربت منها أكثر. أصبح رأسي فوق رأسها. وضعت يدي على رأسها أتحسسه للمرة الأخيرة. كنت في تلك اللحظة أستعيد رحلتي معها. ألقيت برأسي وصدري عليها. عانقتها كما يتعانق الأحباب. كانت دموعي تنهمر كسيل جارف، بل كنهر دافق لا يقف في طريقه أحد.
لا أدري من أين جاء صوتها، لكأنني سمعته يرن في أذني: «سامح.. أحبك... سامح.. خلصني من طعم شفتيه العالقتين على شفتي».
نظرت إلى شفتيها وأطبقت شفتي عليهما لتكون قبلة الوداع خاتمة مآسيها، لأغير بها طعم الجريمة التي ظلت تتذوقها طوال عمرها. طبعت آخر قبلة على شفتيها بينما كانت الدموع تغسلها كي تهزم صورة المجرم الذي ظل يعيش داخلها ويهزمها، وكي لا تكون قبلاته التي اغتصبها آخر ما يطبع على شفتيها.
إنها قبلة حبيب صادق، لعلها تخفف آلام السنين الماضية.
قلت لها بعد أن انتهيت:
– وداعًا حبيبتي!
لم يوقظني من شرودي سوى طرق على الباب وصوت أمها وهي تقول:
– الجنازة ستبدأ الآن. افتحا الباب.
كان فادي يذرف الدموع مثلي. مسحنا دموعنا، وعدلت من وقفتي.
دخلت أمها وبعض النساء. أغلقن الكفن وأحكمن إغلاقه. دخل بعض الرجال من أهلها وأقاربها وحملوها وخرجوا بها.
سمعت أمها تتمتم إلى امرأة تقف بجانبها:
– إن كان زعلان عليها فلماذا طلقها؟ رجال ليس عليهم أمان.
فردت عليها:
– حرام عليك لا تظلميه. العشرة لا تهون إلا على أولاد الحرام.
توجهت الجنازة إلى المقبرة. كانت جنازة صغيرة تضم بعض الأهل والأقارب والأصدقاء. لم يحضر كل معارفها، كأنهم تبرؤوا منها بعد موتها. كان أهل فادي في الجنازة على الرغم من معرفتهم أنه كان زوجًا على ورق. أحبوها لأنهم تضامنوا معها.
دفنّاها وسط الدموع. تقدم فادي وحملها معهم إلى مثواها الأخير. لم يكن بمقدوري التقدم والمشاركة في إنزالها إلى القبر. كانت التقاليد والأصول تفرض احترامها علي.
كنت الوحيد الذي يبكي بصمت، ويتألم بصمت، ويراقب بصمت. كان الصمت في ذلك الموقف أبلغ من أي كلام.
ها هي رانيا التي ملأت أحزانها العالم، ولطخت دماء بكارتها بيروت الجميلة تنزل إلى مثواها الأخير! أتكون تلك نهايتها؟
يا لتلك الطفولة المعذبة! الرجال قتلوا فيها كل شيء. أضاعوا أحلامها. سرقوها مثلما يسرق لص ألعاب طفل ليحرمه من اللهو بها، أو يسرق من العازف آلته الموسيقية. سرقوا بهجتها. سرقوا بسمتها.
تضحك وتُضْحِك غيرها، فيما قلبها يبكي.
بعض الناس يحولون آلامهم إلى إبداع، ويجعلون من نار الجلاد طريقًا إلى القمة.
المضطهدون يثورون كلما زاد الاضطهاد الواقع عليهم، ليتحرروا من نير الظلم، لكنها أبدًا ما استطاعت أن تتغير. لقد وقعت فريسة بيد جلادها، فأطبق أظافره على رقبتها كما يطبق الأسد فكّيه حول رقبة فريسته فيحرمها من الحركة، ويتركها لحظات تعيش نهايتها المؤلمة.
التاريخ | الاسم | مواقع النسيج | مشاركة |