الصفحة الرئيسيةقصص وسرد
مطلوب للتجنيد في إسرائيل
الأحد ٢٣ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم عادل سالم

لم يصدق حامد من طيرة المثلث في فلسطين المحتلة عام 1948 ما سمعه من الضابط الإسرائيلي بأنه مطلوب للتجنيد في الجيش الإسرائيلي.
  تجنيد؟
  نعم للتجنيد.
  ولكني عربي.
  وأمك راحيل شيرانسكي يهودية. وحسب القانون عليك الخدمة لأن أمك يهودية.
  ولكني لست على دين أمي.
  هذا أمر عسكري، عليك الالتحاق بمكتب الجيش خلال أسبوع.

هز حامد رأسه، واستلم الرسالة ودخل إلى غرفته غاضبا وهو يتمتم: «أنا للتجنيد؟ لا يمكن أن أكون جنديا في جيش احتلال، أنا عربي فلسطيني، لقد قالها محمود درويش منذ أربعين سنة، سامحك الله يا أبي، لماذا فعلتها، لماذا فعلتها؟ أخطاء الآباء دائما يدفع ثمنها الأبناء».
قطعت أمه راحيل عليه حبل تفكيره ودخلت عليه.
  لماذا أنت غاضب؟ يمكنك توكيل محامي ليبحث لك عن حل.
  أستغرب هذا القانون الغريب، يقولون إنها دولة اليهود ويريدونني أن أخدم في جيشها، يقتلوننا ويريدون أن نخدم في جيشهم.
  لا تنس يا حامد أنك إسرائيلي وتحمل جواز سفر إسرائيلي وتقدم لك إسرائيل التعليم والتأمين الصحي والخدمات الاجتماعية.
قاطعها:
  تدافعين عنهم لأنك منهم.
  لماذا تخاطبني بهذه الطريقة؟ أنسيت أنني أمك؟
  لم أنس لكنك تتحدثين عن أمور تقدمها أية دولة لمواطنيها ونسيت النقطة الأهم، إنهم سلبونا ثقافتنا وانتماءنا وأرضنا، علمونا في المدارس عن إسرائيل أرض الميعاد.
  يبدو أنك في حالة عصبية، سأتركك حتى يعود أبوك.

خرج حامد من البيت غاضبا مصمما أن لا يذهب إلى التجنيد حتى لو سجنوه، توجه في الطريق إلى المسجد فالصلاة تريح أعصابه. هناك التقى بأحد أصدقائه الذي أخبره أن الحركة الإسلامية التي يرأسها الشيخ رائد صلاح قد دعت إلى مشاركة واسعة يوم الجمعة القادم للصلاة في المسجد الأقصى في القدس وطالب المواطنين المشاركة.

فرح حامد بالخبر، قال لصديقه:
 سجلني فأنا أول المشاركين.

إنها فرصه حامد التي انتظرها، يريد زيارة المسجد الأقصى مرة ثانية، يريد الصلاة فيه. فهؤلاء اليهود يخططون لهدمه ليبنوا هيكلهم المزعوم.
لا لن نسمح لهم بذلك حتى لو على جثثنا.
تحية لهذا الرجل الرائع، الشيخ رائد صلاح إنه مثال الفلسطيني الصامد في أرضه، المقاوم لخطط إسرائيل العنصرية.

في المساء عاد حامد إلى البيت عازما على المشاركة في مسيرة القدس، كان خلال الطريق يقلب في رأسه الحوار الأخير مع صديقه الذي شجعه على عدم التجنيد.
  إياك يا حامد، لا تكن أداة في هذا الجيش الذي يحتل أرضنا.
  لا تقلق يا عبد الغفار، أنا ألتحق بالجيش؟ سأطالب بإلغائي من الخدمة لأنني لست يهوديا.
هز عبد الغفار رأسه وقال له:
  لماذا تزوج أبوك يهودية؟ ولمن نترك بناتنا؟ لليهود؟
  يا عبد الغفار لا تشك لي حتى لا أبكي لك. دائما أقولها إننا نحن الأبناء ندفع ثمن أخطاء الآباء.
  تقصد جرائمهم وليس أخطاءهم.
بعد صمت.
  نعم جرائمهم.

وصل البيت كان أبوه في انتظاره. سلم عليه وقال له:
 لقد تحدثت مع المحامي وقال إنه مستعد لمتابعة قضيتك، كلنا معك يا حامد، أنا لا أقبل لابني أن يخدم في الجيش ليقتل أبناء شعبه.
هدأ حامد من غضبه، ونظر إلى أبيه يعاتبه بعينيه ثم قال له:
  حسنا يا أبي ومتى موعدي مع المحامي.
  غدا الساعة العاشرة، سأكون معك.
قالت أمه:
  وأنا سأكون معكما.
  أنت؟
  نعم أنا، ألست ابني؟! وهل تعتقد أنك لا تعني شيئا لي؟ لا تنظر إلي هكذا، أنا يهودية صحيح لكنني لست مسؤولة عن جرائم الجيش الإسرائيلي.
كنت أعمل مع أبيك في نفس المصنع، كانت علاقتنا طيبة، وكنت أقف معه عندما كان يتعرض لاعتداءات من اليهود أو استفزازات عنصرية.
أحبني وبادلته نفس الحب، لم نضع الديانة أمامنا لتسد الطريق.
تزوجنا لعلنا نكون نقطة البدء في سلام حقيقي بين أبناء الشعبين.
نظرت إلى زوجها إبراهيم وتابعت:
  هل تذكر يا إبراهيم كيف تعرضنا للهجوم من قبل الأهل في بداية زواجنا؟ أهلك قالوا لماذا تزوجت يهودية؟ في البداية عاملوني بجلافة لكن مع الأيام أصبحت منهم. وها أنا أعيش في المثلث مع العرب وأشاركهم أفراحهم وأحزانهم... لم أعترض على أن أولادي اتبعوا دين أبيهم. وأهلي قاطعوني في البداية قالوا أنت تتزوجين عربي إرهابي، لكنهم بعد ذلك تقبلوا الأمر الواقع، وصرنا عائلة واحدة.
ألا تذكر يا حسام، (اسأل أباك إن نسيت) عندما كان خالك يوسي، وخالتك شولاميت يزورانني؟ كانوا سعداء بك، يحملونك، يقبلونك ويلعبون معك، أنسيت كم مرة لعبت مع أولادهم؟
  أعرف ذلك يا أمي، وأتذكره، لم أنس أبدا، لكني الآن كبرت وتغيرت الأمور على الأرض.
أخوك يوسي مدير الشرطة في الناصرة.
  ولكنه يقوم بواجبه في الدولة.
قال له أبوه:
  يا حامد لا تحملنا يا بني كل مشاكل فلسطين.
المهم أمك ولا تقلق بخالك ولا خالتك. لا تنس الموعد غدا.
هز رأسه، ودخل إلى غرفته، فيما جلست أمه تخاطب أباه.
  حبيبي، لقد تغير حامد منذ التحاقه بالحركة الإسلامية إنهم يحرضونه، لم أتوقع ابني أن يكون متطرفا.
  لا تقلقي يا راحيل، إنها فورة الشباب. سيظل يشعر أنه عربي من أم يهودية.
اقترب منها بعد أن جلس بجانبها، ضمها إلى صدره، ثم قبل رأسها، طوقها بذراعيه، نظر إلى عيونها.
بعد صمت قال لها:
 تزوجنا لنوقف سفك الدماء، ونضع نهاية للحروب، كنت دائما زوجة رائعة.
طبع قبلة على شفتيها.
  راحيل
  نعم حبيبي
  آن الأوان أن يصبح رئيس الدولة من أم يهودية وأب عربي أو العكس فقد يحل ذلك المشكلة.
ابتسمت ثم قالت:
  ولكن حامد لا يشعر بنصفه اليهودي.
  هل تذكرين قصة غسان كنفاني عائد إلى حيفا.
  وكيف أنساها، لكم تناقشنا فيها.
 في تلك القصة الطفل العربي الذي يتركاه أبواه يكون في عائلة يهودية لكن حامد ربيناه معا أنا وأنت. زار أخواله وخالاته.
  أعتقد أنه يعيش أزمة انتماء.
طبع قبة أخرى وقال لها:
  وأنا الآن أعيش أزمة....
حملها بيدية وذهب إلى غرفة النوم.

وفي اليوم التالي أكد لهم المحامي عبد صعوبة القضية، لكنه سيحاول.
(القانون الإسرائيلي يعد كل مواطن من أم يهودية بأنه يهودي).
  وماذا لو لم يقبل الخدمة في الجيش، سأل أبوه.
  سيحكمون عليه بالسجن طيلة فترة الخدمة العسكرية.
نظرت إليه أمه.
  لا أريد ابني سجينا، لماذا يا بني لا تخدم في الجيش؟ ستمر الفترة بسرعة، وستحصل على امتيازات لا يحصل عليها إلا الذين يخدمون في الجيش، الدروز يخدمون في الجيش.
نظر إليها غاضبا.
  قلت لكما لن ألتحق بالجيش حتى لو سجنت، أقبل السجن على التجنيد، لكن لماذا أسجن وأنا لست يهوديا.
نظر إلى أبيه وأزاح وجهه عنه وهو يكرر في داخله نفس السؤال:
  لماذا فعلتها؟

وصلت صباح الجمعة عدة حافلات من الجليل والمثلث تنقل الفلسطينيين الذين سيشاركون في الصلاة في المسجد الأقصى احتجاجا على الحفريات المتواصلة أسفله.
إسرائيل اتخذت قرارا يمنع من هم تحت سن 45 سنة من الدخول إلى المسجد الأقصى لهذا ظل حامد وعشرات مثله خارج أسوار القدس وبقي معهم الشيخ رائد صلاح، فاحتشدوا مع آلاف غيرهم من سكان القدس الذين منعوا أيضا من الدخول إلى المسجد الأقصى.
  ما أروعه من تجمع؟
قال حامد لصديقه عبد الغفار.
  حقا أشعر اليوم بانتماء حقيقي، فلسطينيو الجليل والمثلث مع فلسطينيي القدس يقفون أمام سور القدس رافضين إجراءات الاحتلال.

اقترب موعد الصلاة، تجمع الناس أمام بوابة باب العامود، ازدادت الأعداد، فرش كل منهم سجادته ودعا الشيخ رائد إلى الصلاة، كانت صفوف المصلين لكثرتها تسبب أزمة سير، حاولت الشرطة منع المصلين الجدد من الانضمام إلى المصلين الآخرين، فاصطدمت مع المواطنين، بعض الشباب ألقى الحجارة باتجاه الشرطة فبدأوا بضرب المواطنين العرب من كل اتجاه.
رفعت الشعارات المنددة بالاحتلال، والمطالبة بانسحابه.
الأقصى للمسلمين. القدس للعرب. ارحلوا عن بلادنا....

كان حامد غاضبا عندما رأى شرطيا هاجما بفرسه على أحد المواطنين المقدسيين يضربه بالعصا فرفع زجاجة الماء التي يحملها وقذفها في وجه الشرطي، رآه شرطي آخر من بعيد فأطلق عليه رصاصة مطاطية أسقطته على الأرض، حمله مواطنون ونقلوه فورا إلى مستشفى المقاصد الخيرية في القدس.

لم تصدق أمه الخبر.
  حامد مصاب، حبيبي، ابني.
  لا تقلقي.
  قالها زوجها، لقد تحدثت معه وهو بصحة جيدة لكن يشعر بألم حاد في أذنه من شدة الرصاصة المطاطية. سيعود مساء اليوم إلى البلد.
صورة حامد ملأت الصحافة الإسرائيلية.
حامد من الطيرة مصاب برصاصة جندي إسرائيلي بالقدس.
اتصل يوسي بأخته يسألها:
 كيف حامد؟
  لقد أصيب في رأسه، لماذا تطلقون الرصاص على مواطنين عزل؟
  لكنه قذف الشرطي بقنينة.
  يا يوسي، المياه الآن كلها بعلب بلاستيكية، وليس زجاجية.
  آسف لما حدث معه يا راحيل، ابنك التحق بالحركة الإسلامية، إنهم ضد الدولة ويكرهون اليهود، ألم تعلمينه كيف يحب أخواله.
 وهل الأمر بيدي وحدي يا يوسي.
  وماذا تقصدين؟
  لو أحب أخواله سيكره أعمامه لأن أعمامه وأخواله لا يحبون بعضهم بعضا. عاش الصراع منذ كان طفلا، أنسيت يا يوسي؟ أنسيت أن عم أبيه لاجئ في مخيمات لبنان؟
  لسنا مسؤولين عن ذلك هو الذي هرب إلى هناك.
  يوسي هذا كلام تقوله للعرب وليس لي، حتى لو هو الذي هرب لماذا يمنع من العودة إلى بلده؟
  راحيل، لا أعرف ماذا أقول لك.
  أنا الذي أقول، حامد ابني يحمل في داخله كل صراعات اليهود والعرب، إنه يصارع نفسه، يمينه ضد شماله يحاول أن يوحد بينهما، لكنه عاجز. لا يعرف ماذا يفعل لقد لجأ إلى الحركة الإسلامية لأنه رأى فيها الحركة التي تدافع عن الطرف الأضعف المظلوم. لقد وقف مع أعمامه ضد أخواله لأنه رأى تشردهم وبؤسهم.

أغلقت راحيل الخط مع أخيها. وجلست وحدها تراجع ذكرياتها، كانت تنشط مع حركة السلام. ولكنها تشعر أن السلام الحقيقي أبعد من الأرض عن السماء.
وصل حامد في ساعة متأخرة من الليلة التالية إلى البيت كان أبوه وأمه بانتظاره.
  حامد حبيبي.
هجمت عليه أمه تقبله، ثم أبوه، عانقهما، قبل يديهما، وقد هالهما منظر أذنه اليسرى المصابة.
  هل أنت بخير؟
  الحمد لله لكني أشعر أن سمعي قد خف قليلا، الطبيب قال لي سوف تتحسن.
هنأوه بالسلامة ولامته أمه.
  لماذا ضربت الشرطي بالماء يا بني؟ لا أريدهم أن يقتلوك.
  لو مت لكنت أسعد شهيد يسقط في أرض القدس.
  أتموت من أجل زجاجة ماء؟
  لا ليس من أجل زجاجة ماء، إنها معركة بين الخير وبين الشر، بين الاحتلال وبين الشعب الراسخ تحته، بين العرب مسلمين ومسيحيين وبين واليهود.
  هل عدت لنفس النغمة، اليهود، اليهود! ليس اليهود من ضربك، إنه الجيش الإسرائيلي.
  وما الفرق؟
  الفرق كبير، الجيش أداة الدولة أما اليهودية فهي ديانة، قد تجد يهودا يحبون السلام ويكرهون الحرب.
هز رأسه وقال لها:
  بصراحة، لا تزعلا مني، لكني أسأل نفسي أحيانا: ألم تشعرا يوما أنكما لم تفكرا جيدا في مستقبل أبنائكما؟
قال أبوه:
  لم تبق إلا أن تحاكمنا، عندما تتزوج أنت اختر من تراها مناسبة، لن نتدخل في شؤونك.

جاء موعد التجنيد، لم يذهب حامد إلى قسم الجيش فجاءوه مساء في سيارة شرطة عسكرية واعتقلوه. لم تفلح محاولات أمه وأبيه لتركه حتى الصباح.

في إدارة الجيش رفض حامد التجنيد وأعلمهم أنه يرفض الخدمة في الجيش فكل حروب إسرائيل ضد الفلسطينين والشعوب العربية، وهو لن يشارك في قتل شعبه. تم تحويلة بعد ذلك إلى السجن العسكري حيث احتجز في أحد المعسكرات وأوكلت له مهمة العمل في النهار في المعسكر، لكنه رفض العمل كليا في المعسكر.
قال لهم:
 ما دمت أرفض الخدمة في الجيش فأنا أرفض خدمة الجيش الذي يقمع أبناء شعبنا.
فنقلوه إلى زنزانة (سجن انفرادي) وقرروا حجزه انفراديا حتى يوافق على العمل داخل المعسكر. وفي زنزانه لم يسمحوا له بإدخال الكتب واكتفوا بنسخة من القرآن الكريم فانكب يحفظه كله. لكنه كان يشعر الملل، فالسجن الانفرادي متعب، النهار طويل، لا يستطيع المشي والحركة كثيرا. لا يتحدث مع أحد.
كان يجلس ساعات طويلة أحيانا يقلب الأمور ويفكر بمصيره ولماذا وصل إلى هناك.
 رحم الله المعري
«هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد»
أنت السبب، أنتما السبب، لماذا تزوجتما، من قال لكما أن تتزوجا وتنجباني؟ ألم تفكر يا أبي، ألم تحسب حساب مستقبل أبنائك؟ أكل ما يهمك مشاعرك العاطفية والجنسية؟

كان السجانون الجنود يحاولون إثارته باتهامهم له بأنه خائن لأمه:
  ليت أمك لم تنجبك، فيك دم عربي وسخ.

كان يتحمل كل إهاناتهم بصبر، فليس أمامه غير ذلك. زاره أبوه بعد شهر تقريبا، كان دون أمه، قال له ستزورك أمك في المرة القادمة.
حرص أبوه على زيارته لوحده، لعل ابنه يريد أن يقول له شيئا كعادته، يريد أن يعاتبه، لم يخيب ظن أبيه فهو يعرف ابنه ومعدنه.
شد أبوه على يديه وسأله:
  كيف تقضي أيامك هنا؟
  كما ترى أقضيها وحيدا، فقد منعوني من كل شيء. طلبوا مني العمل في المعسكر لكني رفضت، لن أخدم الجيش، لن أنظف معسكراتهم، لن أغسل ملابسهم ولا أحذيتهم.
هذا ليس جيشي ولا أنتمي إليه، قالوا لي أنت إسرائيلي، فقلت لهم أنا عربي وليس يهودي.
صمت قليلا ثم قال لأبيه:
  فلسطين ليست يا أبي جواز سفر، فلسطين انتماء ثقافي. إنه ليس الاسم إنه الهوية الحقيقية لنا.

كان أبوه يستمع إليه وهو فخور بهذه الأفكار التي يحملها ابنه. لقد أصبح رجلا يختلف عن أبناء جيله من الشباب العرب من أهل البلد الذين انغمس بعضهم في المخدرات والجنس.
«الحمد لله أن حامد ليس منهم، الحمد لله أنه رمز لأبناء شعبه، الشكر للحركة الإسلامية التي جعلت منه مواطنا صالحا»
قال حامد لأبيه:
  ألم تشعر بالذنب يا أبي لأنك تزوجت يهودية:
تنهد أبوه
  يا حامد، أنا لست الوحيد الذي تزوج يهودية، وعندما تزوجتها فقد جاءت لتعيش معنا بيننا كأي امرأة عربية.
  ألم يفكر أحد منكم بمصير الأولاد؟ لماذا حصرتم تفكيركم فقط بمشاعركم العاطفية وجمال زوجاتكم؟ ألم تفكروا يوما بهذه اللحظة؟.
  وما الخطأ الذي ارتكبناه بمصير أولادنا؟ ها أنت تعيش معنا في البلد كأي مواطن عربي، بعض أبناء اليهوديات في القرية أفضل من بعض الشباب أبناء المسلمات الذين انحرفوا وأصبحوا من تجار المخدرات.
نظر حامد إلى أبيه، وقد سالت بعض الدموع على خدوده.
قال لأبيه:
  يا أبي، يبدو أنك لا تعرف ما أعانيه ولن تشعر به.
صمت قليلا ثم أكمل:
  ألم تقل يوما أن عمك كان أحد اللاجئين إلى جنوب لبنان عام 1948 عندما كان يسكن في حيفا؟ ألم تحدثني كيف منعوه من العودة وأن أولاده الأحياء الآن يعيشون في مخيم عين الحلوة هناك يحلمون بالعودة إلى بيتهم القديم؟
  ما الذي تريد أن تصل إليه؟
  الذي أردت أن أصل إليه، كيف تزوجت ابنة مهاجر روسي الذي هو جدي جاء يستوطن بيت عمك القديم ويحتل مكانه؟ كيف يكافأ الضحايا جلاديهم؟
  ما ذنب أمك يا حامد؟ لقد ولدت هنا مثلي ومثلك.
هز حامد رأسه:
 يا أبي هي أمي، أحبها، أحترمها، وصانا الرسول على امهاتنا أنا أتكلم عنك أنت عن زواج مع زوجتك. كيف قبلت الزواج منها؟ ألم تفكر أن ابنك عندما يكبر سيكون مشطورا بين الضحية والجلاد.
ألم تعد العدة لهذه المرحلة؟
أنا أنتمي لعائلة أعمامي الضحايا وأخوالي الجلادين! هل هذا ما حلمت أن تضعني فيه. أقارب لاجئون، وأقارب طردوهم وسكنوا مكانهم.
عندما كنت ألعب مع زملائي العرب في المدرسة كان يعدونني فلسطينيا عربيا لكن إن تشاجرت مع أحدهم قال: «ابن اليهودية». وإن تعرفت في خارج البلد على يهودي قال: «ابن العربي».
 ولكنك ابن الطيرة، ابن عبد الغفار، مالك ولأخوالك.
 كيف ذلك؟ ألست إنسانا ألا أحلم أن يكون لي خال يحبني وأحبه؟ أليس من حقي أن تكون لي خالة كعمتي، تلعب معي وأنا طفل وتغني لي يا ظريف الطول كما كانت عمتي مليحة تغني لي؟ لماذا يجب أن أكون مقسوما نصفين نصف أنتمي إليه ونصف أصارعه من أجل البقاء.
نصفي الأول يريد أن يلغي النصف الثاني.
انحيازي إلى فلسطين يا أبي لا ينهي المشكلة، بل يشكل مقدمتها.
كيف تريدني أن أعيش لجد جاء هنا مستوطنا وحال هو وأولاده من عودة عمك من دار اللجوء والتشتت؟
لا يا والدي عليك أنت وكل الذين تزوجوا اليهوديات في بلدنا أن تعترفوا بخطئكم. فلو فكرت بمشاعر ابنك القادم لغيرت رأيك.

كان أبوه صامتا كأنه يعيد حساباته، ماذا يقول لابنه الذي عبر له عن إحساس لم يفكر به يوما ما.
(هل أساء الولد الأدب أمام أبيه؟)
كلا كل كلمة قالها صحيحة، يبدو أن غسان كنفاني لم يفكر بها إما لأنه اهتم بالفكرة الأساسية أو لأنه لم يغص عميقا في دواخل شخصيات عائد إلى حيقا.
ها هو حامد يؤكد أن الإنسان ليس فقط انتماء ثقافي وحضاري وفكري بل هو مجموعة من المشاعر والأحلام والذكريات.
عندما عاد الأب إلى البيت، طمأن راحيل عن ابنهما، وقال لها وهو يحتسي معها فنجان القهوة:
  راحيل ما سمعته اليوم من حامد أثارني، أعادني عشرين عاما إلى الوراء، وطرح علي نقطة جوهرية لم أفكر بها يوما.

كنت عندما تزوجتك أفكر بك أنت، بحبي لك، بحبك لي بانحيازك إلى السلام والتآخي بين شعبينا، ولا أعتقد أنني أخطأت في تصرفي، لم أندم على خياري، ما زلت أؤمن أنني اخترت الطريق الصحيح، لكن حامد يرى الأمور من منظار آخر يختلف كليا. إنه يتساءل: لماذا عليه أن يكون ابن أخ الضحايا وابن أخت الجلادين؟ لماذا جعلناه في وضع لا يستطيع فيه أن يكون مع الطرفين؟ ربما لو كنت ألمانية وكنت أمريكيا مثلا لكان حال ابننا عادي، لم يشعر بتلك المشاعر ولم يعش ذلك التناقض لكن الصراع القائم بين العرب واليهود لا يمكن أبدا إلا أن يترك تأثيره عليه.

إنه باختصار يشعر أنه ينتمي إلى نصف عائلة، وأنه كان سيكون أسعد لو كان ينتمي لعائلة موحدة.

تنهدت وقالت له:
 هل أخطأنا عندما اخترنا طريق السلام؟ أم أن قدر شعبينا أن يعيشا بصراع دموي؟ هل كان حامد سيعاني ما يعانيه لو تحقق السلام بين الشعبين وتوقف سفك الدماء؟ أعرف أن اليهود ظلموا العرب هنا وطردوهم من أرضهم لكن.... ماذا علينا أن نفعل الآن؟
كيف يمكن تصحيح الوضع؟ كيف يمكن لي ولك أن نوحد مشاعر ابنك، أن نجعله يشعر بالانتماء لعائلة موحدة؟ كيف يمكننا أن نجعله يحب أخواله كما أعمامه؟
  من الصعب يا راحيل، أنا شخصيا لم أفكر بذلك من قبل. قلت له: «لقد فكرت بك أنت فقط»، أما هو فالمسألة تختلف، يريد خاله كما يريد عمه. قال لي:
  لقد حرمتني من خال وخالة وجدا. ابننا اتهمني بأنني قسمته إلى نصفين.
  هل تشعر بالندم على خطوة زواجنا.
  لا... لا أشعر ذلك.
لكن... أعتقد الآن أنه على صواب أيضا.
  ماذا لو تزوج كل اليهود عربا وكل العرب يهودا.
  إنه حلم غير قابل للتحقيق يا راحيل، حتى لوحصل ذلك فلن يحل المشكلة، هل تعرفين لماذا؟
  لماذا؟
  لأن بعضهم سينحاز إلى الطرف المظلوم كما حصل مع حامد وبعضهم الآخر سينحاز إلى الطرف الظالم ويتقمص شخصيته ويحمل سوطه، وسيظل التناقض قائما.
  أوه يا حبيبي وما الحل؟ ما الحل؟ يا إلهي ماذا نفعل؟
  لا يوجد سوى حل واحد.
  ليته يكون نهاية المأساة.
  أن يتخلى الجلاد عن سوطه ويضمد جراح ضحاياه، فهل يفعلها يوما ما؟
 متى يتحقق ذلك؟
 عندما يقلق أنين الضحايا حياة الجلاد ليل نهار فلا يعرف الراحة ويتعذر عليه إسكاتهم.


تعقيبك على الموضوع
في هذا القسم أيضاً