/B_rub>
حمل حقيبته وتوجه إلى المطار في رحلة قصيرة لمدة أسبوع.
بعد أن قدم أوراقه اللازمة والتذكرة دخل إلى قاعة المطار ومن هناك إلى الطائرة، وضع حقيبته في المكان المحدد للحقائب ، خلع جاكيته وجلس يطالع كتابا يحمله بانتظار إقلاع الطائرة.
المضيفة تعلن موعد إقلاع الطائرة وتطالب الجميع بربط الأحزمة وإغلاق هواتفهم النقالة وجميع الأجهزة الكهربائية. بدأت الطائرة بعد لحظات بالتحرك ، لم يمض سوى عدة دقائق حتى كانت في الجو.
شعر بالراحة بعد أن أقلعت بسلام فهو عادة يخاف ساعة الإقلاع أكثر مما يخاف ساعة الهبوط، حَمِد الله على ذلك وعاد لكتابه من جديد ، كان يحمل كتابا عبارة عن مجموعة قصصية لأمل اسماعيل، [1] بعنوان "لأنها لا تموت".
بعد قراءة القصة الثانية بدأ ربان الطائرة يطلب من الركاب ربط الأحزمة من جديد استعداداً لمطبات هوائية قوية.
وضع الكتاب جانبا، ما عاد يشعر برغبة في القراءة، فهو يكره المطبات الهوائية ، بل هو يخاف منها، لأنها ببساطة تضعه بين الحياة والموت ، وهل هناك أكثر رهبة من أن تكون أقرب للموت من الحياة ولا تملك ولو خيطا واحدا من النجاة؟
ألقى برأسه على الكرسي ، وأغلق عينية، وذهب يستعيد شريط الأيام القريبة الماضية.
فجأة بدأت الطائرة بالاهتزاز، فتح عينيه ليرى كل من حوله منهمكين بقراءة الصحف أو المجلات، كأن شيئا لا يعنيهم، فيما هو ازدادت دقات قلبه. تساءل وهو يدقق النظر بعجوزين يجلسان في المقاعد الأمامية منه : لماذا أنا الوحيد الذي يرتبك ويخاف عندما تصل الطائرة إلى مطب هوائي؟
ليست المرة الأولى التي يسافر فيها، لكنه يخاف كعادته في كل مرة؟ لا يدري إن كان يخاف الموت أم يخاف اهتزاز الطائرة. مع أنه يدرك أن الموت بيد الخالق، لكن رغم ذلك يتملكه الخوف كلما اهتزت الطائرة.
بدأ يعض على شفتيه، تذكر أنه لم يخبر زوجته ماذا تفعل ببعض الأمور لو حصل له مكروه.
– ليتني أخبرتها!
أخرج من جيبه ورقة وقلم وبدأ يكتب وصيته لزوجته ووضعها في محفظته ،ضحك من نفسه وقال:
– كم أنا غبي، وهل ستسلم الورقة لو حصل بالطائرة مكروه؟
لكنه أجاب نفسه.
– لن أخسر شيئا من ذلك من يدري ربما تبقى الورقة.
ازداد اهتزاز الطائرة، قائد الطائرة يطلب من المضيفات والمضيفين الجلوس وربط الأحزمة، حالة من الخوف الشديد تسيطر عليه ، تهتز الطائرة عدة اهتزازات وتهبط إلى الأسفل بسبب المطب الهوائي، يشعر كأنه مات أو كاد، يبدأ بترتيل آيات من القرآن الكريم
– اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، اللهم اغفر لي وارحمني وانقذني وأعدني لعائلتي سالما. يكرر دعاءه عشرات المرات وهو يستعيد شريط حياته كلها.
– آخ إن حصل شيء لي سيشمت بي بعض الأقارب وخصوصا عمي أبو سلمان الذي ملأ الحقد قلبه وأساء لي أكثر مما أساء لي أعدائي، نسي كل ما قدمته له، نسي كم كنت أحبه للأسف، أغرته أمواله وأعمته عن الحقيقة.
بل سيشمت بي كل العائلة، من يدري، سيشمت بي من كنت يوما أعدهم أصدقائي، فكانوا كالعقارب ينهشون بي. لم أنتقم منهم بعد، لم أرد لهم الصاع صاعين، سأموت مهزوما أمامهم. هزموني بحقدهم وكرههم وتآمرهم. الآن سأموت دون أن أشفي غليلي منهم.
اهتزت الطائرة هزات عنيفة ، بدأ الوجوم يسيطر على الجميع ، زوج وزوجته تعانقا يودعان بعضهما قبل أن يفوت الأوان. أمعن النظر في العجوزين الجالسين أمامه ، فلم يشاهد أن تغيير في وضعهما، يتصرفان كأن شيئا لم يكن. ربما لأنهما أشرفا على الموت فلم يهمهما إن ماتا على الأرض أو في الجو.
عاد يدعو الله أن يغفر له، فجأة بدأ يقارن بين دعواته بأن يغفر الله له وحرصه على الانتقام من أقربائه ومن كان يعدهم أصدقاءه:
– كيف أطلب من الله أن يغفر لي ذنوبي –وما أكثرها- وأرفض أن أصفح عن أحد منهم.
– كيف أصفح عنهم ولا زال الحقد والتآمر يملأ قلوبهم؟
– ألم تتحول مثلهم حاقدا عليهم؟
– لكنهم خدعوني ، أساءوا لي دون وجه حق.
– رغم كل ذلك فقد ساهم الحقد والكره الذي زرعوه فيك مسيطرا على تصرفاتك. عليك أن تنزعه من نفسك؟
– كيف؟ هل أتنازل علن حقي؟
– لا ليس كذلك لكن قاوم مشاعر الكراهية في نفسك، قاومها بالحب، نعم بالحب، وهل كان المسيح مخطئا عندما دعا إلى محاربة الشر بالمحبة؟ ألا ترى أنك بمقاومتهم بالحب إنما تنتصر على نوازع الشر في نفسك. جرب ذلك ، حاول ولو مرة، قرر في نفسك أن تصفح عن كل الذين أساءوا لك بالحب، وقل لي بعد ذلك ماذا تشعر. عندما تنزع عناصر الشر من داخلك فأنت تنتصر لنفسك وليس لهم، عندما تعلن مواجهة الموت بالحب سترى الحياة بعيون أكثر صفاء وقلب أكثر نقاءاً.
هذا هو الفارق الذي يميز الخالق عنا، قدرته على الصفح والمغفرة .
– هل على أن أحب من أساءوا لي؟
– هل تعلم أنك عندما تحبهم، وتصفح عنهم، وتسامحهم، وتشطب زلاتهم، وتواجه حقدهم وكرههم وإساءتهم بالحب فإنك تنتصر عليهم. تهزمهم بالضربة القاضية.
الطائرة تزداد اهتزازا ، لم يعد يهمه أي شيء ، أغلق عينيه وقرر التجاوب مع ذلك النداء الداخلي، نعم سأصفح عن كل هؤلاء الناس، سأسامحهم، إن عشت وإن مت، لم يعد قلبي يكره أحدا.
هدأت الطائرة ، الربان يعلن بعد دقائق انتهاء المطبات الهوائية ويسمح للركاب بفك الأحزمة.
تنفس الصعداء ، الحمد لله على كل شيء.
نظر إلى العجوزين مرة أخرى فلم ير أي أثر من الخوف أو الفرحة بادية علىوجوههم .
– يا إلهي ، هل فعلا لا يهمهما الموت أم أنهم أكثر شجاعة مني، أم أن الحب يملأ قلوبهم بحيث يتسع لكل شيء؟؟
وأخيرا وصلت الطائرة ، هبطت بسلام ، خرج للمدرج يبحث عمن ينتظر قدومه.
كانت زوجته وبعض الأقارب، أحدهم كان ممن ... لا لا لن أكره أحداً. _ سلم على الجميع وعانقهم وغادر المطار.
[1] كاتبة فلسطينية مقيمة في الإمارات