الصفحة الرئيسيةظلال الياسمين
الدكتور إلياس عطاالله في حواره مع عادل سالم
فكرة عجز العربيّة عن مواكبة الطفرة التكنولوجيّة فرية قديمة
هذه الحبيبة ( اللغة العربية ) آخر معاقل العرب بعد سقوط كلّ الثغور والعواصم
الاثنين ١٦ أيار (مايو) ٢٠٠٥
بقلم عادل سالم

الدكتور إلياس عطا الله ليس فقط حاصلا على شهادة الدكتوراة في اللغة العربية بل هو باحث متميز في علم اللغة العربية وعالم من علمائها المعروفين غزيري الإنتاج وواحد من الذين أثروا المكتبة العربية بأكثر من ثلاثين كتابا في شتى مجالات اللغة العربية ، وأبرزها المعاجم الأربعة التي نشرها العام 2005 بعد أن أمضى سنوات من البحث والتقصي لجمعها وتبويبها .

  موسوعة عطاالله في علم العربيّة. صدر عن مكتبة لبنان- بيروت، آذار، 2005
  معجم الأفعال الرباعية، تأثيليّ ودلاليّ.
  معجم المصطلحات النحويّة الكلاسيكية.
  معجم الأثول الثُّنائيّة

قبل النكبة بستة أشهر ، ولد الدكتور إلياس عطا الله في أواخر عام 1947 في مدينة حيفا وبقي فيها صامداً حتى يومنا هذا يعلم أبناء شعبه لغة أحبها من كل قلبه وتخصص بها للدفاع عنها أمام موجات التهويد والتغريب الممنهجة فكان بذلك رمزاً للغة العربية في فلسطين التي احتلت عام 1948 وامتدت آثاره لتصل العالم العربي بعد أن أنجز معاجمه الأربعة التي وزعتها دار نشر معروفة في بيروت .

الحوار مع الدكتور إلياس عطا الله ذو شجون ، والحديث معه متعة وعلم يكتسبه كل من حظي به ، ولولا انشغالاته الكثيرة لطال الحوار وتفرع عبر دهاليز كثيرة .

 دكتور إلياس قبل أسبوعين حلّت ذكرى النكبة... ماذا بقي للدكتور إلياس عطاالله من ذكريات عن النكبة؟

  لست يا أخي ممّن يشتهون الحديث عن النكبة بمصطلحات الأعياد والأحداث العاديّة، وذلك بأن نجعل لها ذكرى تحلّ يوم كذا أو ساعة كذا... ولا أراها عيدا يحتفى به، ولا مناسبة للتذكير... ومن نذكّر؟ الفلسطينيين؟ أم العرب؟ أم أمم العالم؟ وكيف تتعايش الذكرى مصطلحا مع النكبة؟ ليست القضيّة حدثا للتاريخ حتى يُتحدّث عنه بشكل موسميّ، النكبة وجع كلانيّ؛ دير ياسين، وكفر قاسم، والاقتلاع، واللجوء والمخيّمات والصفيح، والدم المنهرق، والرافض المرفوض، والمواطن اللامواطن، وتلّ الزعتر، وصبرا وشاتيلا، وجنين، وأضف إليها ما شئت من مواطنَ نَزَفْنا فيها، ونقَمٍ نزلت علينا... والإفاقة صباحا على اللاوطن، وإغماضة العين عليه، وما تعيشه من تفاصيل في حياتك اليوميّة، يظل من بُنَيّات النكبة وعقابيلها، فالنكبة لم تصبح مبحثا لإضبارات الحكومات ومادّة لأقلام كتبة التاريخ، وإن كان الأمر كذلك، فهذه هي النكبة الثانية. النكبة نزف مستمر... وجع مقيم... أقول هذا وتلفّني خشية أرتعد لها... لا أعرف يا أخي أيّنا الصادق وأيّنا المحلّق حالما... وهذه نكبة ثالثة.

أنا لا أحمل ذكريات عن النكبة، رغم معرفتي بأحداثها وتفاصيلها... أنا النكبة ذاتها، ولدت لحظتها، وهجّر الأهل من إقرت، ولذا لا أعرف عن النكبة إلا أموراً بسيطة؛ ما عاد مسقط الرأس يعني وطناً، ومعادلة مسقط الرأس الوطن ليست من معجميّة اللاجئ، وتلك التي سقط فيها رأسي، ولم تجُبْ قدماي طرقاتها، ولا أنِسَت عيناي جمالها، ستعود يقينا لتكون مسقط جثّتي المحمولة ليحضنها تراب إقرت... وعلى السخرية الممضّة في الأمر، فهذه الحقيقة ترَفٌ محروم منه أهلنا في شتاتهم.

 دكتور إلياس، عندما التحقت بالمدرسة، هل كانت المواد تعلم بالعربية أم بالعبرية؟ وهل كانت المدارس حينها مشتركة مع الأطفال اليهود أم مستقلّة للعرب؟

  من الروضة حتى الدراسة الثانويّة، تعلّمت في قرية الرامة الجليليّة، ومدارسنا عربيّة، ولغة التدريس هي العربيّة، والطلبة عرب، والأساتذة عرب، والمقررات الدراسيّة عربيّة إسرائيليّة يضع مناهجها ويختار موادّها أوصياء على التعليم العربي من اليهود، وجلّهم من العراقيين، الّذين وفدوا أو أجلتهم القوى الصهيونيّة الخاصّة قسرا عن بلدهم بعد التفجيرات المشهورة في بغداد، وبعد صفقة مع الحكومة العراقيّة سنة 1950، وكلّهم، كما يقولون، أكاديميّون، نسوا شهاداتهم في العراق، ولعلّها غرقت في دجلة أو الفرات كما حلا لهم أن يذكروا. أمّا الموادّ، فالكتب شحيحة، ولذا كان علينا أن ننسخ من نسخة نادرة، أو ممّا يمليه علينا الأساتذة، مترجما عن العبريّة أو الإنجليزيّة، أو مأخوذا من بعض المكتب العربيّة الصادرة في مصر، وكلّها طبعا ممّا حظي بموافقة الرقيب من أهل الحل والربط من جملة الأوصياء الأمنيّين المتأكدمين.

الطلبة اليهود لهم مدارسهم، ولذا لم نر طالبا يهوديّا يتعلّم في مدرسة عربيّة، وفي الوقت نفسه، أنشئت مدرسة الرامة الزراعيّة، وكان مديرها يهوديّا، وكذا عدد من أساتذتها... أمّا المفتشون المتنفّذون فهم من اليهود، معهم بضعة من المفتشين العرب " ممّن ترضى إسرائيليّته".

في الستينيّات من القرن الماضي، بدأ عدد قليل من الطلبة العرب يرتادون المدارس العبريّة، بحثا عن مواضيع لا تدرّس في المدارس العربيّة، أو نوعا من الاستعداد للدراسات العليا في إسرائيل، أو بتأثير من الموالين لحزب مبام اليساري الذي وجدت الشبيبة في كيبوتساته مجالا للعمل... والحبّ. بعد ذلك ازداد عدد الطلبة العرب الدّارسين في المدارس العبريّة، وغالبيّتهم ممّن التحقوا بهذه المدارس في المرحلتين الإعداديّة أو الثانويّة. على صعيد الدراسة الأكاديميّة، الطلبة من عرب ويهود يتعلّمون معا، العبريّة هي لغة التدريس في كلّ الأقسام، ومعها الإنجليزيّة، أمّا في أقسام اللغات، فلغة القسم هي لغة التدريس، عدا قسم اللغة العربيّة، فالعربيّة ليست لغة التدريس الرسميّة فيه، وقلّة هم المحاضرون الذين يدرّسون بالعربيّة، وقلّة هم الطلبة الذين كتبوا أبحاثهم بالعربيّة، ولا أنسى يوم شرعت في كتابة رسالة الدّكتوراة في الجامعة العبريّة في علم المصطلحيّة القواعديّة، كيف كان عليّ أن أتقدّم بطلب للسماح لي بكتابة بحثي بالعربيّة، مشفوعا برسالة معلّلة من مرشدي العلاّمة الدمث أ. ليفين. والأنكى من ذالك، أنّه حين رأى أستاذي أن تنشر دراستي في الجامعة نفسها- لأهميّتها وتفرّدها كما كتب- نسي أنّ الأمر استحالة... فالجامعة العبريّة، على مكانتها الأكاديميّة محليّا وعالميّا، ورغم ولادتها قبل إسرائيل، لم تنشر ولو بحثا واحدا بالعربيّة!

 لماذا اختار الدكتور إلياس اللغة العربية لتكون مجال تخصصه العلمي؟

 هي قضيّة عشق، والعشق يندرج في القدر لا في الاختيار... والعاشق لا يُسأل عن سبب عشقه، ومن أحبَّ توزّعه فرح وحزن، وكلاهما دافع لأن تظلّ الحبيبة متورّدة الخدّين تختال مغناجا ترشّ الدّنى بالألق والشذا، ولا أعرف حبيبة يرضى حبيبها لها شيوعا وعشّاقا غير هذه.

 الأستاذ الدكتور إلياس عطاالله، المتمعن في سيرتك الذاتية يلاحظ أنك عملت من أجل اللغة العربية عدّة عقود، يبدو أنّك تفعل ذلك بعشق، فهل تعتقد أنّ العلم وحده والدراسة يكفيان لإنشاء خبير متمكّن في اللغة العربية، أم أنه يجب أن تكون هنالك علاقة خاصّة بين الإنسان واللغة حتى يمتلكها بكل أريحيّة؟

- عشق لا ترفده المعرفة لا يجدي، ومعرفة خلوٌ من العشق تتّسم بفقر العافية.

 عبر مسيرتك الطويلة من التعامل مع علم اللغة، متمعنا ومبحرا في الألفاظ والدلالات، كيف برأيك نستطيع أن نضمن الحياة للغة العربيّة، بعد هذا التطوّر الهائل في التكنولوجيا واتجاه الإنسان للتعامل مع الآلة أكثر وأكثر؟ أقصد أنّ تطوّر العصور يوحي لنا وكأنّ اللغة العربية لم تعد تنفع، فهل هذا صحيح؟

 فكرة عجز العربيّة عن مواكبة الطفرة التكنولوجيّة فرية قديمة، ولا يعني هذا أنّنا لا نجابه إشكالا، حتّى لو افترضنا أنّنا لا نجد البدائل لمصطلحات وأسماء عدد من المستجدّات على ساحة التكنولوجيا الرّحبة، فهذا لا يفضي إلى الاستنتاج بأن " اللغة العربيّةلم تعد تنفع"، فاللغات ما ولدت لهذه الوظيفة فقط، للغات وظائف أخرى أوسع، ولا إشكال يقف أمام العربيّة فيها.

ثمّة أمر بدَهيٌّ يغيب عن الأذهان، وهو أنّ اللغات جميعا ولّدت ألفاظ الأشياء بعد اختراعها، أو أثناء اختراعها، وتكنولوجيا العصر، لها مثيل عربيّ سابق في عصر الصحوة العربيّة الإسلاميّة، فكم من العلوم أوجدَ العرب؟ وماذا عن مصطلحيّة علم الفلك وعلم البصريّات وعلم الجبر والمثلّثات والجبر والمجتمعيّة والطبّ والجراحة والعمارة... ولكلّ من هذه العلوم آلاته، فكيف وجدت العربيّة يسرا في تسمية الأشياء؟ وكيف تصرّفت لغات شعوب الأرض مع هذا الجديد العربيّ؟ تكفي مراجعة بسيطة في المعاجم والكتب المختصّة للوقوف على حقيقة على غاية من البساطة، وهي انتقال المصطلح العربيّ مع شيء من التحريف تقتضيه بنية اللغات المقترضة... وما أثيرت، على ما أظنّ، عند المقترضين فكرة عدم جدوى لغتهم، كما هي الحال عندنا! ما أتعس حالتنا يا أخي في علاقتنا بلغتنا! لمَ تتزعزع ثقتنا بقدراتها كلّما اخترع شيء جديد؟ إن كانت اختراعات اليوم مذهلة، فإنها ليست أشدّ إشكالا من التلفون والراديو والتلفزيون والتيبريكوردر والقائمة طويلة يوم اخترعت، وتعامل العرب مع هذه المستجدّات، إمّا بقبول الألفاظ على ما هي عليه، مع تطويعها أحيانا لقوالب العربيّة، أو بإيجاد البديل لها، ويبقى الاستعمال هو الفيصل، فإن كانت الراديو أوسع انتشارا من المذياع، والتلفزيون أوسع سيرورة من المرناة... فالأمر رهن بالبديل المقترح ومدى جفائه على الأذن واللسان، أو تقبّلهما له، ولذا، لست من دعاة إيجاد البديل العربيّ عنوة، إنّه لأمرٌ يثلج الصدر أن نجد البديل الرّائج، وعلينا إن فعلنا هذا أن نضمن له سيرورة، باستعماله في وسائل إعلامنا، ولغة أساتذتنا، وكتب تدريسنا، ولغة اللافتات في الشوارع والمحالّ التجاريّة... وفي حديتنا اليوميّ، فإن لم نفعل، فإنّ ما نقوم به هو هدر للجهد والزّمن معا، ووقوف أما الحقيقة الموجعة بوصول مقترحنا البديل إلى إضبارات الرفوف، وإضبارات الرفوف وسلال المهملات في مثل هذه الحالة سيّان.

 في فلسطين المحتلّة عام ال 48 يضطرّ أهلنا هناك إلى التعامل بالعبريّة، ربّما أكثر من اللغة العربيّة، وربّما لا يتمّ التعامل مع اللغة العربيّة إلا في الصفوف المخصصة لها، هل هذا الكلام دقيق؟ أم أنّه يوجد اهتمام باللغة العربيّة وإحيائها وإبقائها نابضة؟ هل أثّر استخدام العبريّة سلبا على الألسنة؟

 أحيلك أخي، والأحبّة القرّاء إلى المقالة المرفقة، ففيها تناولت الموضوع بإسهاب.

 لاحظت أنّك عضو في لجنتين مهمّتين، هما اللجنة العليا لشؤون اللغة العربيّة في وزارة المعارف، وعضو مؤسس لمجمع اللغة العربيّة. في الحقيقة يستغرب الإنسان لوجودهما، فمثلا لا توجد هذه المؤسسات في الضفة الغربية، وأعتقد أنهما إن وجدتا في الدول العربيّة فبلا عمل وبلا فائدة، ما هو دور هاتين اللجنتين، وما دورهما في رفعة اللغة العربيّة وتطوّرها وإبقائها على ألسنة أبنائها منسابة كالنبع العذب الصافي؟

 اللجنة والمجمع حديثا العهد، واللجنة سابقة للمجمع، وإن كان قسم كبير من أعضائها، من مؤسّسي المجمع. في الدّاخل لنا أزمتنا المتمثّلة بعلاقتنا بالعبريّة، والعبريّة لغة حديثة عصريّة، لاتعاني من شأن الخلق والاقتراض.. .ومناهج تدريسنا، في عدد من المقرّرات المدرسيّة هي مناهج عامّة تشمل العرب واليهود، ولذا، فإنّ المراجع الرسميّة هي العبريّة، أو ما يترجم عنها إلى العربيّة. كان المترجمون في البداية أفرادا يعملون باندفاعة شخصيّة، ولكلّ غاياته، أو ممّن أوكل إليهم قسم المناهج أن يقوموا بالعمل، ولم تتغيّر الأمور، ما جدّ هو أنّ قسم المناهج ارتأى أن يستعين بخبرات وآراء مجموعة من أساتذة العربيّة في موضوعة المصطلحيّة، وذلك بهدف توحيدها ونشرها في المدارس، أو تبنّيها في الكتب الصادرة عن الوزارة، وعملنا على المقارنة مع الشّائع من هذه المصطلحات في الأقطار العربيّة، أو على توليد البديل لما كان عبريّا خالصا، وعليه كانت لنا علاقات غير رسميّة تتسم بالفرديّة غير التمثيليّة جرّاء موقف اللاتطبيع، مع عدد من الإخوة في المجامع العربيّة للاستئناس بآرائهم والتعلّم من خبراتهم. صدر عن هذه اللجنة التي تعطّلت أعمالها لفترة ما، كتيّبان باسم " المنهل" في المصطلحيّة في علوم التربية والمجتمعيّة، ومع عودة نشاط اللجنة، فهي بصدد نشر الجزء الثالث من المنهل. إن كان هنالك موضع للتفاؤل، فهو كامن في أنّ هذه المصطلحات تجد مكانها في كتب التدريس، ولنا أن نرجو لها شيوعا بين الأساتذة والطلبة.

أمّا المجمع، فهو ابن عام ونيّف، ولذا لن نسرع في إصدار الأحكام والتقييم، ورغم هذا فقد أفلح في نشر كتابه الأوّل، وعقد مؤتمرين في شؤون العربيّة... أهمّ ما يصبو إليه المجمع، أن يكون جسما مستقلا قادرا على تمويل نفسه ومشاريعه، والأمر ليس بالهيّن، فالموارد شحيحة، وأخلاقيات الدّعم العربيّ مأزومة، خاصّة لمثل هذه المؤسّسات عامّة، وفي الداخل خاصّة، ناهيك عمّا نحن في غنى عنه من مساءلات وتحقيقات إن تلقّينا دعما.

 من المعروف أنّ أساليب تدريس قواعد اللغة العربيّة لم تكن إلا وسيلة لإضعاف اللغة، أنت كمهتمّ بأساليب التدريس، ما رأيك بالأساليب المتّبعة في تدريسها؟ ما هي آخر الأبحاث حول هذا الموضوع؟ وما هو الأسلوب الأفضل برأيك وأنت الخبير باللغة وقواعدها وتدريسها؟

 لا أجدّد حين أقول إنّ قواعد لغتنا وضعت في القرن الثاني للهجرة، متمثّلة بما تركه الخليل ( 170 هـ.) في العين وفي ما علّمه لسيبويه( 175 هـ.) الّذي وضع " قرآن النحو" الكتاب، وبما تركه الفرّاء ( 207 هـ.) في معاني القرآن... وكانت خطوة التغيير الثوريّة الأولى في مطلع القرن الرابع الهجريّ، حين وضع ابن السرّاج ( 316 هـ.) كتابيه الشهيرين: الأصول في النحو، والموجز، ثمّ جاء بعده الزّجاجي ( 337/ 340 هـ.؟) ميسّرا في كتابه الشهير الجمل في النحو. كلّ كتب تدريسنا تعتمد هؤلاء، أو من جاء بعدهم مصنّفا أو شارحا، وإن كان النحو المغربيّ/ الأندلسيّ والمصريّ، المنهل الأساس الذي تعتمده كتب تدريس قواعد اليوم، متكئة بشكل بيّن على ابن مالك بألفيّته وشراحها، وعلى ابن هشام الأنصاريّ بمصنّفاته وشرّاحها.
رصدت هذه القواعدُ اللغةَ العربيّة الفصيحة، ولغة القرآن الكريم خاصّة، وجاءت لتقعّدها أو توضّحها... وتغيّرت اللغة، ألفاظ ماتت، وأخرى ولدت، أساليب سقطت، وأخرى سادت، وما زال نحونا في بعض المدارس يتعامل مع لغة وأسلوبيّات القرن الثاني، ويدرج في مقرّرات التدريس، مثلا، الأفعال الناصبة لثلاثة مفاعيل، رغم دفن هذه الأفعال منذ سنين، ويعلّم عن أوزان جموع القلّة وجموع الكثرة، والنسبة إلى المفرد والجمع، والإعراب التفصيليّ، والإعراب المحليّ، رغم دعوة مجمع القاهرة إلى التيسير في مثل هذه المواضع...والنِّقَمُ كثيرة، ولا أعرف تفسيرا لتكريس إحدى وخمسين صفحة لتدريس " الحال"، ومثلها لموضوع "الإضافة"، في كتاب " توضيح النحو" المصريّ المعتمد على شرح ابن عقيل لألفيّة ابن مالك!

ليس "توضيح النحو" المذكور أنموذجا للشائع، فكتب التدريس الأخرى أيسر، ورغم هذا ما زالت هذه الكتب بمجملها تعتمد الكلاسكيّة في موضوعة الإعراب، وآن لنا أن نكتفي بتدريس الوظائف النحويّة لطلبتنا، دون إقحامهم، في المراحل الدنيا والوسطى في التعليلات والتفاصيل، علينا أن نضمن سلامة لغويّة في لسان الطالب، ولا خطأ ولا خطيئة في اكتفاء الطالب بالقول في "تلك" مبتدأ مثلا، فهو يقولها بسلامة ولا يغيّر موقعها الإعرابيّ فيها، ولا حاجة في المرحلتين المذكورتين إلى الوقوف عند كون التاء اسم إشارة مبنيّا، واللام حرفًا للبعد مبنيّا والكاف حرفا مبنيّا... وكذا الأمر في الجمل التي لها محلّ من الإعراب، وتلك التي لا محلّ لها... ومواطن التيسير كثيرة.

لا أميل إلى هذا الأسلوب أوذاك، وإن كنت أوثر التيسير، ولست ممّن يؤمنون بالمدارس النحويّة، أو بأساليب التدريس وتنظيرات أصحابها، فلطالما كانت موجة عابرة، غمامة صيف... أفضل الأساليب أن تعرف، وحين تعرف حتى الامتلاء، ستعرف ماذا تعطي، ومتى، ولمن... أفضل الأساليب عندي، أن يعترف المسؤولون أنّ العربيّة الفصحى لغة ثانية، شأنها شأن اللغات الأجنبيّة التي تدرّس... فلغة البيت المحكيّة هي اللغة الأولى، أمّا الفصحى فلا يجبهها الطفل العربيّ رسميّا إلا على مقاعد المدرسة، بعد أن تجاوز سنّ الاكتساب اللغويّ، ولن يحدث تغيير إن بقيت حالتنا هذه الحالة: لغة الكتاب فصيحة+ لغة المعلّم والطالب عاميّة+ لغة الواجبات والامتحانات فصيحة! أرأيتم هذه الفُصاميّة... التغيير الملِحّ، وهو الأسلوب الأنجح والأنجع برأيي؛ على معلّم العربيّة أن يتحدّت العربيّة الفصيحة المشكولة مع طلبته، وعليه أن يطلب إليهم ذلك، وعلى المعلم العربيّ أن يكون معلّما للعربيّة، مهما كان موضوع تخصّصه، فالعربيّة ليست شأنا لأستاذ العربيّة، إنّها شأن الأستاذ العربيّ... ونعود إلى حيث بدأنا... العشق والانتماء.

 نعتذر لك، فنحن أمام أحد أعلام اللغة العربيّة يصبح حديثنا في اللغة ذا شجون، فتكون الأسئلة حولها، والسؤال الآن، كيف أثّرت دراستك للغة العربيّة عليك وعلى نتاجك الإبداعيّ؟

 عشق العروبة أفضى إلى عشق العربيّة، وهذه عمّقت عشقي للعروبة وأهلها، والعشق يا أخي عطاء، ولذا كنت في كلّ ما أكتب مسكونا بدفء وقلق على العربيّة وأهلها. ولذا انشغلت باحثا ومحاضرا ومديرا بشؤون عشقي، انشغلت بالعربيّة محاولا حمايتها من النكبات التي حلّت بأهلها، ذدت عنها فصيحة مختالة على الأوراق، مموسقة على الألسن، واقيا لها من موجة العبرنة التي يتعرّض لها الأهل في الدّاخل قسرًا وطوعا، ومن موجات دعوات الوسطيّة والمساومات مع العامّيّات... هذه الحبيبة آخر معاقل العرب بعد سقوط كلّ الثغور والعواصم، وعن كونها المركّب الأسمى في هويّتي وانتمائي، كتبت في الدراسة التي أرسلتها إليك.

 دخلت اللغة العربيّة مفردات كثيرة من لغات مختلفة يصعب التخلّي عنها، مثل كلمة باشا في مصر وكلمة ساد في العراق بمعنى حزين، وكلمة مرسي في شمال إفريقيا بمعنى شكرا، كيف يمكن التخلّص من المفردات الدخيلة، أم هل التعريب ممكن؟
 اللغات الحيّة، والعربيّة أطولها عمرا وأغناها، تتقارض، تعير وتستعير، وعلى صعيد الفصيح الممعجم. وما أتيتَ به هو غيض من فيض ممّا تلهج به ألسنة العامّة، وخلافا لما يدخل الفصيح والّذي علينا أن نتحكّم به، فإنّ ما يقتحم العاميّات لا سلطة لأحد عليه إلاّ الإنسان الفرد أو التربية بدءا بأصغر الدوائر الاجتماعيّة؛ الأسرة. ولو وقفتِ القضيّة عند كلمات كهذه، لما التفت إليها أحد، والأمر لا يحتاج إلى التعريب في مثل هذه الحالة، فالبديل العربيّ موجود ورائج... المثير للشفقة لا للقلق هم أولئك الّذين يتحدّثون بغير العربيّة من أبناء السّراة وطلبة الجامعات وغيرهم من بعض الشرائح المجتمعيّة، ولكل دافعه المرفوض... كنت أتخيّل أنّ أبناءنا الجامعيين في العواصم العربيّة، ولم أزر إلا القاهرة وعمّان، يتحدّثون العربيّة بينهم، وكم كانت الإنجليزيّة "الفصحى" لغة الحوار في جلساتهم! شيء ما مأزوم فينا، ولعلّ الأمر عارض، وهذا ما أرجوه... أمّا إن كانت وراءه أزمة خبوّ انتمائي أو جهل بالعربيّة، فهذه هي الطّامّة... ونحن المسؤولون أوّلا وأخيرا.

 من يتحمّل مسؤوليّة عدم انتشار الكلمات المعرّبة في العالم العربي؟؟

 حتّى أسهِّل الأمر عليّ وعلى القارئ أقول: أستثني من المسؤوليّة ملايين الأميين في العالم العربيّ.

 لماذا لا نلمس أيّ دور لمجمع اللغة العربية قي القاهرة؟ وهل هناك تنسيق بين مؤسسات العمل الثقافي العربي لتطوير اللغة العربيّة لتواكب الاكتشافات العلميّة والاختراعات الجديدة؟

 ليس لنا أن نتجنّى على مجمع اللغة العربيّة في القاهرة، أو على غيره من المجامع في العواصم العربيّة، فقد بذلوا جهودا محمودة علىصعيد التعريب والمصطلحيّة والأسلوبيّة والمعجميّة، ناهيك عن دعواتهم التي بُحَّ صوتها إلى التيسير في العمليّة التعليميّة وحتى الإملائيّة، وهذا الدعوات موثّقة معروفة منذ عام 1934 في مجمع القاهرة؛ المجمع الملكيّ، وما على القارئ الكريم إلا أن يراجع دوريّات المجامع ليقف على الجهد الكبير الّذي بذله الأعضاء... المشكلة يا أخي كامنة في أمرين أدّيا إلى "إجهاض" كلّ القرارات: الأوّل: عدم التنسيق بين هذه المجامع، وأعني أن تكون دعواتهم وإنتاجاتهم واقتراحاتهم واحدة، ولأسباب لا تجهلها، وُئِدَت فكرة مجمع عربيّ واحد في الفكر الناصريّ مع سقوط الوحدة العربيّة، والثاني: اصطدام ما ينادي به المجمعيّون بجدران الصدّ الصمّاء من مؤسّسات مختلفة، دينيّة، حكوميّة، فرديّة... المجمع ليس سلطة تنفيذيّة، بل إنّ الجامعات أو الحكومات التي ولّدت المجامع لا تلتزم بقرارات المجامع، وبعض الإخوة من العاملين في المجامع، لا ترى أثرا في لغتهم، أو في مصنّفاتهم التدريسيّة، خاصّة في قواعد اللغة العربيّة، لدعوات نادوا بها في مجامعهم.

 بعض الناس يدعون لإحلال اللهجة العامّيّة بدلا من اللغة الفصحى، كيف ترد عليهم؟

  وهنا أيضا أحيل إلى المقالة المرفقة، والتي أرجو أن يجد فيها أهلنا، فلسطينيين وعربا، فائدة... وخوفا من الآتي.


تعقيبك على الموضوع
في هذا القسم أيضاً