كان الأسرى الفلسطينيون في سجن بئر السبع عام 1983 يتذمرون من اعتداءات الجنود الإسرائيليين على رفاقهم المنقولين من السجن إلى سجن آخر أو للعلاج في مستشفى سجن الرملة الذي يعتبر المستشفى المركزي لدائرة السجون الإسرائيلية.
لم يعد الأمر محتملا، فكلما عاد أسير من المستشفى يقدم تقريرا موسعا يشكو فيه اعتداء الجنود الذين كنا نسميهم برجال البوسطة، بعضهم كان يعود وآثار الضرب والركلات بادية على وجهه. والبوسطة كلمة عبرية وتعني هنا السيارة التي ينقل بها الأسرى أو السجناء اليهود من سجن إلى سجن آخر وغالبا ما تكون سيارة كبيرة تشتبه سيارات الشرطة المصرية التي تسمى بوكس.
ضج الأسرى وسرت همهمات بين كثيرين منهم بأنهم سوف يقاطعون المستشفى حتى توقف إدارة السجن ذئابها الذين يستغلون القيود التي تكبلهم أثناء النقل لينزلوا عليهم بالهراوات والضرب والركل والبصق، حتى لا يعود الأسير قادرا على السير. إنهم ينتقمون منه في كل مرة يسافر فيها حتى أصبح يكره السفر.
لم يكفهم أسرنا ومضايقتنا في السجن، وها هم ينتقمون منا أثناء سفرنا من سجن إلى سجن آخر، في كل مرة يستخدمون أساليب جديدة في تعذيبنا كأنهم يمارسون علينا ساديتهم التي ورثوها عن أجدادهم الأولين
– لن أذهب للمستشفى قال أحد الأسرى المحكوم عليه بالسجن 4 سنوات، فما فائدة السفر للمستشفى للعلاج من مرض لأعود مصابا بمرض آخر.
– أنا أرى أن نحتج ونتخذ خطوات تصعيدية مع الإدارة حتى لو أدى الوضع للإضراب عن الطعام، رد عليه أسير ثان.
– علينا أن نواجه السجانين في البوسطة حتى لو كنا مقيدين
– لكن كيف ونحن مقيدون كل أسيرين بقيد مشترك، وليس دائما يكون المسافرون عدد من الأسرى فأحيانا يكون المسافر أو المنقول أسير أو اثنان، لا حول لهما ولا قوة. ومعهم في السيارة سجناء يهود ينقلونهم معنا من الأقسام الأخرى.
بعد أسبوع رجع مع البوسطة أسير مضى على اعتقاله عشر سنوات. عندما دخل للسجن كان منظره يوحي بأن اعتداءا كبيرا تم عليه. سأله أحد الإخوة بعد أن سلم عليه
– ما الذي حصل؟
– اعتدى علي السجانون، رجال البوسطة
– كيف حصل ذلك؟
– في الطريق توقفوا في منطقة خالية لا يوجد فيها سيارات ولا إنس ولا جان، كأننا في صحراء، فجأة فتح باب البوسطة، نظر إلى السجان روني، تعرفه، الرجل الطويل الأشقر، فناداني وقال لي تعال انزل، وعندما نزلت وكنت مقيد اليدين والرجلين، حتى هجم علي هو وزملاؤه السجانون ضربا وركلا بيديهم وأرجلهم وعصيهم، حتى لم أعد قادرا على الحديث أو حتى الصراخ. فحملوني ورموني في البوسطة التي كان بها عدة سجناء يهود، كانو يضحكون عندما كنت أتعرض للضرب من الجنود، حيث كانوا يتفرجون علي من شباك شاحنة النقل، بل كانو يشجعونهم على ضربنا ويقولون لهم:
– تهرجوتو، زي حبلان جدول، بن زونا (اقتلوه فهو مخرب كبير وابن زانية)
وعندما أعادوني للبوسطة حاولوا أن يستأنفوا ما بدأه الجنود فقال لهم الجنود، يكفيه هذه المرة وفي العودة من المستشفى سنتركه لكم لتتسلوا عليه.
وهذا ما حصل ففي العودة تركوا بعض السجناء اليهود من العالم السفلي يعتدون علينا وقدموا لهم التسهيلات لذلك. وها أنذا عدت لا أقوى على الحركة، على ممثل المعتقل من طرفنا أن يحتج للإدارة الصهيونية.
تقدم أسير أعرج، كان قد أصيب في ساقه في اشتباك مع الجنود قبل أسره، أصبح على أثرها أعرج وتم تركيب عمود من البلاتين في ساقه ليستطيع السير، وبع لحظة صمت قصيرة قال لمسؤول التنظيم أنه يريد التسجيل للمستشفى،
سأله المسؤول:
– لكنك لست مريضا يا محمود !
– أريد أن أنتقم من هؤلاء السجانين
– ولكن ذلك مسؤولية السجن كله وليس أنت لوحدك
– حسنا لكني أرى أنني يجب الذهاب للمستشفى
– لماذا لا تنتظر حتى ننهي تلك المسألة مع الإدارة حتى لا يحصل معك ما حصل. ضحك ثم قال
– حسنا لكنك تعرف أن الإدارة أصلا تنقل المرضى للمستشفى بعد شهر أو شهرين من موعد التسجيل، بعد أن يكون الأسير قد مات أو استفحل به المرض. فإن حلت المسألة أسحب التسجيل.
– لكنهم جنود سفل مدججون بالسلاح وأنت لا تستطيع أن تواجه كل ذلك لوحدك
– اتركني وسترى
– حسنا لكن دعنا نسجل معك عدة أشخاص حتى لا تكون وحدك في البوسطة فقد يقتلوك انتقاما ويقولون إنك هربت.
– اتفقنا
ظل يحلم بيوم السفر للمستشفى، سيكون يوم الانتقام والرد على هؤلاء القتلة.
لم يكفهم اغتصاب بلادنا، لكنهم يعذبونا بكل الطرق، ليس في قلوبهم الرحمة ولو أن ابتسامتهم أحيانا تحاول أن توحي لك عكس ذلك.
ضرب الأسرى ممنوع بكل القوانين فماذا يمارسونه ضدنا
حان موعد السفر، نادى السجان المسؤول في مكبرات الصوت أسماء الأشخاص المنقولين للمستشفى في صبيحة اليوم الذي يليه، فعادة يتم تبليغ المسافرين قبل موعد السفر بيوم ليحضروا أنفسهم.
استيقظ محمود في الصباح الباكر حوالي الساعة السادسة هيأ نفسه، وجهز ملابسه، وأغراضه في كيس من الخيش وعند السادسة والنصف حضر أحد السجانين ونادى عليهم بالاسم واحدا واحدا، وأخذهم معه بعد أن قيدهم بالكلبشات وسار بهم من قسم إلى قسم حتى صاروا خارج البناية أمام سيارة البوسطة، وكل منهم يحمل في يده كيسا فيه بعض الغيارات خلال السفر.
يعرف محمود أن عادة السجانين يربطون كل أسيرين بقيد واحد، الرجل اليمنى لأحدهم مع الرجل اليسرى للآخر واليد اليمنى مع اليد اليسرى للآخر وفي اليد الأخرى يحمل كل منهم كيس ملابسه وغياراته مثل معجون الأسنان ، سجاير للمدخنين الخ قال في نفسه:
ساعة الحسم اقتربت .
اقترب السجانون وفتشوا كل سجين على انفراد وتأكدوا أن كل شيء على مايرام، جاء دور محمود وبعد أن فتشوه نظروا في عينيه نظرة تحد، فأشاح بوجهه عنهم ، قال في نفسه لم تحن ساعة المواجهة.
صرخ به السجان افتح فمك، فتح محمود فمه فلم يروا شيئا
– كل شيء جاهز ، قال السجانون للمسؤول
– حسنا قيدوهم
فبدأوا بتقييدهم كل اثنين معا، حرص محمود أن تقيد يده ورجله اليسرى لأنه أعرج ويفضل أن تكون اليمنى حرة لتساعدة إن احتاج شيئا، فوافق شريكه في القيد وما إن وضع القيد في يديهما ورجليهما نقل محمود كيس الملابس الخاص به لليد اليسرى المقيدة.
صرخ مسؤول سيارة البوسطة بعد انتهاء تقييد الأسرى وأمرهم أن يصعدوا اثنين اثنين للسيارة، كان السجانون يقفون على باب البوسطة، ينظرون بتعال وتحد على الأسرى، اقترب دور محمود وشريكه، فقد كان وزميله الأخيرين، رفع يده اليمنى بوضع طبيعي وحك رأسه ثم رويدا نزل بيده على وجهه، بدأ يعدل حواجبه، ثم أنفه ثم فمه وما إن وصل إلى الجندي حتى ضربه بكل قوته في وجهه بشفرة حادة صغيرة كان قد وضعها تحت لسانهـ وانتزعها بسرعة البرق في تلك اللحظة، ولم يتوقف بل استمر يضرب السجان ضربات سريعة، لعلها أسرع من لمح البصر وجه السجان بدأ ينز دما من كل مكان وبدأ يصرخ من الألم قبل أن يهجم السجانون على محمود ويلقوه أرضا ثم يلقون القبض عليه ليذيقوه العذاب قبل أن ينقلوه للزنزانة.
صرخ المسؤول عن السجن، من هذا؟ فأجابوه :
– إنه محمود أبو النصر من غزة يا سيدي.
– مخمود؟ (لفظها بالخاء كما يفعل اليهود)، الأعرج؟
– نعم سيدي
– يا إلهي وماذا كنتم تفعلون؟ لم يتوقع مدير السجن أن أسيرا أعرج قصير القامة، يفعل ما فعله.
مدير السجن يستدعي مسؤول الأسرى بغضب، ويعلمه أن سيارة البوسطة قد ألغيت اليوم، لأن الأسير محمود قد اعتدى على السجان وقال له :
– لقد تماديتم بالاعتداء على السجان بإمكاني أن أعاقبكم كلكم فلا شك أنكم أنتم من أمره بذلك، لقد قررنا حبس حل الأسرى المنقولين في الزنزانة، حتى نرى تقرر إدارة السجون شيئا آخر.
– تعلمون سيادتكم أننا قدمنا لكم شكاوي كثيرة حول ممارسات رجال البوسطة لكنكم لم تعملوا شيئا.
– رجال البوسطة ليسوا من مسؤوليتنا فهم غير تابعين للسجن، هم يعملون تحت إمرة إدارة السجون، وحرس الحدود.
– كان بإمكانكم أن تقدموا الشكاوي لمسؤوليهم عما يفعلونه، هناك عشرات الأسرى الذين قدمنا شكاويهم لكم تعرضوا لاعتداء من رجال البوسطة، وآخرها قبل أسبوع. ليس هذا فحسب بل كانوا يحرضون السجناء اليهود على ضربهم أثناء نقلهم في البوسطة.
– حسنا أريد الهدوء بالسجن حتى أرفع تقريرا بما حصل لإدارة السجون.
عاد ممثل الأسرى للأقسام ليبلغ الأسرى بما حصل، فصاحوا جميعا مسرورين، يعيش محمود، يعيش محمود
– بطل، وابن بطل
– لقد فعل ما كان علينا فعله
– لقد فعل ما أمر به
– قلوبنا معه
– ما الذي سيفعلونه به الآن؟ سأل أسير حديث العهد على الأسر.
– سيقدمونه للمحاكمة ليحكموا عليه عشرة سنوات أخرى
– ماذا؟ عشر سنوات؟
– لا تقلق ، فهو محكوم بالسجن المؤبد، ولن يخرج من السجن إلا بتبادل الأسرى بين العدو وبين الثورة. ولن يضيره عشر سنوات أخرى.
التاريخ | الاسم | مواقع النسيج | مشاركة |