كان كريما لأبعد الحدود، لم يترك مناسبة لعمل الخير إلا وشارك فيها دون ضجيج أو محاولة للفت انتباه الناس، كان مثل جابر عثرات الكرام يعمل في الظلام ويكره أن يمن على أحد.
رغم ذلك لم يسلم من كلام الناس وتعليقاتهم وثرثراتهم حتى وهو يقدم المساعدة لهم، كانوا يقولون:
– يتبرع حتى يكتب عنه الصحافيون.
– بل يتبرع حتى ينتخبه الناس لمجلس الشعب.
– إنه يتبرع ليكفر عن سيئاته الكثيرة.
– بصراحة هو رجل أهبل، وإلا لم يبذر فلوسه على الناس.
– بل يتبرع ليدخل الجنة، فكل جنيه يتبرع به يأخذ بدلا منه عشرة في الجنة.
– يا عالم لماذا هذه الاستغابة للرجل فهو يتبرع حبا في عمل الخير.
لم يأبه الحاج حنفي بكلام الناس فكل ما كان يهمه رضى ضميره لينام مرتاح البال، وهو لم يكن مليونيرا كما يقولون لكنه تاجر متوسط الحال، مستورة والحمد لله كما كان يقول دائما والبسمة لا تفارق شفتيه.
الحاج حنفي كان محبوبا في مدينته ليس فقط لتبرعاته ولكن لأمانته ونزاهته وتواضعه الذي كان يحسده عليه منافسوه وأقرباؤه.
كانت الشركات تحب التعامل معه ويرسلون له البضاعة مع تأجيل الدفع لعدة أشهر وكان هو بالمقابل يلتزم بكل وعوده للشركات ولا يتأخر في دفع مستحقاته في موعدها.
عجلة الزمن تدور، ولا يدوم على حال لها شان، تجارة الحاج حنفي تبدأ بالتدهور، فالعالم الجديد والتكنولوجيا الجديدة تغلبت عليه.
محلات كبيرة تم فتحها قريبة منه تشتري بضائعها من المصانع الأجنبية فلم يعد يقوى على المنافسة الجديدة. يتوقف الحاج حنفي عن التبرعات، ويقع في ورطة، حيث يعجز عن سداد ديونه المتراكمة فتصادر الشركات بقرار من المحكمة البضائع من المحل وتبيع محله وبيته في المزاد العلني فيضطر للعيش في شقة صغيرة بالايجار ويبدأ باستخدام الأوتوبيس (الباص) بعد أن باع سيارته لكثرة مصاريفها وغلاء البنزين.
لم يصدق الناس ماذا جرى وكانوا يتهامسون خلفه:
– معقول الحاج حنفي أفلس؟
– لا أصدق، أعتقد أنه يحاول التهرب من دفع ديونه للشركات.
– الحاج حنفي يموه على الناس بأنه طفران، حتى لا يطالبه أحد بشيء.
– يدعي الإفلاس حتى يتوقف عن التبرعات.
– الحاج حنفي يستغبينا، أخفى فلوسه عن الضرائب حتى يتركوه وشأنه.
– يا ناس يا بشر حرام عليكم، ارحموا عزيز قوم ذل.
لم يتركه أحد وشأنه، فكل من عرفه لذعه بتعليقاته ونكاته حتى أصبح حديث الشارع، وهذي زوجته ملت حياة الفقر التي لم تتعود عليها فطلبت منه الطلاق وتركته وحيدا.
ها هو الحاج حنفي يجلس في المقهى الشعبي في أحد شوارع المدينة يشرب الشاي ويدخن الشيشة ويستمع أحيانا لتعليقات من هنا ومن هناك يتلقفها ببسمة مصطنعة، كمن يستسلم لقدر لم يرسمه لنفسه.
وحده أبو كرتونه الذي ظل صادقا مع الحاج حنفي، فهذا الرجل الذي كان يرمي عليه الناس تعليقاتهم وزبالتهم لأنه (على البركة) كما يصفونه، لم يكن يجد من يعطف عليه ويشتري له الملابس إلا الحاج حنفي فبقي مخلصا له حتى وهو في محنته. كان ينظر من بعيد للحاج حنفي وهو شارد الذهن ويبكي لما آلت عليه أحواله.
كلما سحب الحاج حنفي نفسا من شيشته في مقهى النصر يغمض عينيه وهو يخرج الدخان من رئتيه كأنه يستعيد مع الزفير كل شريط ذكرياته القديمة.
أين الأصدقاء والأصحاب؟ أين الذين كانوا دائما يوهموني أنهم أصدقائي؟ سبحان الله لم يبق على ما هو عليه إلا الله.
الناس تتغير، نعم كنت أعرف ذلك لكني لم أكن أعرف أنهم يتغيرون بهذه السرعة، هل كان كل من عرفت يصادقني فقط لفلوسي؟ لمصلحة شخصية معي؟ ملعونة الفلوس.
زادت التعليقات على الحاج حنفي فلم يعد يطيق سماعها. في أحد المرات لم يتحمل تعليقات أحد الزبائن فحدثت مشكلة بين الطرفين هجم فيها الشاب على الحاج حنفي محاولا الاعتداء عليه إلا أن يدا قوية منعته وشدته للخلف، نظر الحاج حنفي فإذا به أبو كرتونه الذي كان قوي البنية وسليط اللسان، ربت الحاج حنفي على ظهر أبي كرتونة وقال له:
– فيك الخير يا أبا كرتونة.
– خيرك سابق يا حاج حنفي.
بكى الحاج حنفي وجلس في مقعده يسحب الشيشة من جديد ويتساءل أين هم الناس الذين يذكرون الخير كما يذكره أبو كرتونة. آه يا زمن ! كلهم خانوك يا حاج إلا أبو كرتونة.
جلس أبو كرتونة بجانب الحاج حنفي وهو ينظر إليه غير مصدق أن يكون هذا الرجل الذي كان يحترمه الجميع هو نفس الرجل الذي يسخر منه من هب ودب.
أسند أبو كرتونة ظهره للحائط بجانب الحاج حنفي الذي طلب له كأسا من الشاي، وفجأة بدأ يتمتم ويغني بصوت حزين:
– عين يا ليل، ليل يا عين
أهل الوفا راحو فين
معك جنيه بتسوى اتنين
إوعى توقع تحت الدين
التاريخ | الاسم | مواقع النسيج | مشاركة |