/B_rub>
لعل أصعب ما يواجه الكاتب أحياناً تدوين مذكراته اليومية ليس لأنه يقضي الساعات والأيام مفكراً فيما سيكتب ، متذكراً الحوادث الصغيرة والكبيرة، البعيدة والقريبة في حياته بل لأنه سيقف أمام نفسه.
أيكون صادقاً سارداً للحوادث بصدق؟ خيرها وشرها، إيجابياتها وسلبياتها أم سيختار منها ما يمجد النفس ويعظمها أمام الآخرين كما يفعل الأمراء والملوك والزعماء وكتابهم؟!
إنه الامتحان الصعب والصعب جداً فقد يواجه الكاتب أسراراً كثيرة إن أخفاها، أخفى الوجه الحقيقي لنفسه وإن أفشاها أساء لأصدقاء أو معارف أو أقارب أو حتى لنفسه، وهو أحياناً يتساءل هل الصدق في تدوين المذكرات تعني كشف الغسيل الوسخ؟ ما الذي يفيد القارئ سرد كل أسرار الإنسان والغوص في أعماقه الداخلية؟ لا يحتاج الكاتب إلى تفكير طويل لكي يقتنع أن المذكرات التي لا تغوص في داخل الأشياء تفقد رونقها وتعتبر بلا قيمة ولا أهمية لها.
إذ ماذا تعني تواريخ الميلاد والوفاة والأماكن التي تعلم فيها المرء، والقصائد أو الكتب التي كتبها إن لم نفهم لماذا كتبها وكيف فكر بها، لنتعرف على شخصيته الحقيقية لا التي أراد لنا أن نعرفه بها.
فكثير من الممثلين الفكاهيين، يحملون داخلهم آلاماً وأحزاناً تهد الجبال وكثير من المطربين الذين يغنون للحب، يتمنون أن يعيشوا كما يعيش الآخرون. وكثير من الذين كتبوا للحب يحملون حقدا في قلوبهم ويعشقون القتل وسفك الدماء.
إن شئنا نحن أن نرقص على أنغام أغانيهم رقصنا فرحين وإن أردنا أن نسعد بترديد كلماتهم رددناها بفرح، أما إذا أردنا أن نغوص في أعماقهم علينا البحث عن أشياء أخرى نرى فيها من نحبه أو نقرأ عنه على حقيقته .. وقد نحبه أكثر وقد نقرر بعد أن استمعنا إليه أنه لم يعد مطربنا المفضل.
لن يقف الأمر عند حد الغوص في أعماق النفس وكشف أسرارها والمسألة هنا تختلف من كاتب لآخر، فالبعض يحب الحديث حتى في المسائل الثانوية وآخرون يرون أن الأهم هو ما يتعلق بعلاقة الكاتب بمن حوله ولا ضرورة الغوص في تفاصيل العلاقات الشخصية البحتة للفرد، ويختلف الموضوع من كاتب يكتب عن نفسه وآخر يكتب عن آخرين.
تشريح الذات بأسلوب أدبي، وتحليل الممارسات ونقدها أصعب ما يكتبه الكاتب ولكنه الأهم والأكثر قيمة وربما فيما بعد الأطول عمراً. فكتاب "الأيام" لـ طه حسين أكثر انتشارا من كتاب "نقد الشعر الجاهلي". لأن "الأيام" قصة مذكرات طه حسن بكل ما فيها من سلبيات وإيجابيات، وهي بحد ذاتها مرآة لعصر طه حسين ومجتمع طه حسين.
ليس بالضرورة أن يكون الكاتب مشهوراً حتى يكتب عن نفسه أو حتى نقرأ له، فثمة كتّاب كثيرون عندما تقرأ لهم أو عنهم تقف مبهوراً من صدقهم وتتعلم الكثير من تجاربهم تماماً كما تعلمت أنا عندما قرأت جزءً من مذكرات الكاتبة اللبنانية "سعاد الحكيم" في مجلة "العربي" الكويتية، تلك الكاتبة التي لم أقرأ عنها من قبل والتي لمتُ نفسي أنني لم أعرفها قبل ذلك لأستمتع بأدبها وصدقها ولأزهد في الدنيا كما زهدت.
لقد عرفت مذ قرأت لها أن في أحشاء هذا الوطن العربي كتاباً وأدباء لو كتبوا سيرتهم الذاتية بأسلوب أدبي سيضيفون إلى عقول أبنائنا تجارب جديدة ونظرة تفاؤل إلى المستقبل.